بقلم الكاتب والمفكر – الحبيب النوبي
قال أحمد بن أبى الحوارى: دخلت على أبى سليمان وهو يبكى، فقلت له: مم تبكى؟ فقال لى:
ويحك يا أحمد.. كيف لا أبكى؟ وقد بلغنى أنه إذا جن الليل، وهدأت العيون، وخلا كل خليل بخليله، واستنارت قلوب العارفين، وتلذذت بذكر ربهم، وارتفعت هممهم إلى ذى العرش، وافترش أهل المحبة أقدامهم بين يدى مليكهم فى مناجاته، ورددوا كلامه بأصوات محزونة، جرت دموعهم على خدودهم، وتقطرت فى محاريبهم، خوفاً واشتياقاً، فأشرف عليهم الجليل، جل جلاله. فنظر إليهم، فأمدهم محبة وسروراً فقال لهم:
يا أحبائى.. اشتغلوا بى وألقوا عن قلوبكم ذكر غيرى، أبشروا، فإن لكم عندى الكرامة والقربة يوم تلقوننى.
وينادى الله جبريل:
يا جبريل.. بعينى من تلذذ بكلامى، واستراح إلى، وأناخ بفنائى، وإنى مطلع عليهم فى خلواتهم، أسمع أنينهم وبكاءهم وأرى تقلبهم واجتهادهم، فناد فيهم يا جبريل:
ما هذا البكاء الذى أسمع؟ وما هذا التضرع الذى أرى منكم؟
هل سمعتم أو أخبركم عنى أحد أن حبيباً يعذب أحباءه؟
أو ما علمتم أنى كريم فكيف لا أرضى؟ أيشبه كرمى أن أرد قوماً قصدونى؟
أم كيف أذل قوماً تعززوا بى؟ أم كيف أحجب غداً قوماً آثرونى على جميع خلقى وعلى أنفسهم وتنعموا بذكرى؟
أم كيف يشبه رحمتى أن أعذب قوماً إذا جنهم الليل تملقونى، وكيفما كانوا انقطعوا إلى، واستراحوا إلى ذكرى، وخافوا عذابى، وطلبوا القربة عندى، فبى حلفت لأرفعن الوحشة عن قلوبهم، ولأكونن أنيسهم إلى أن يلقونى، فإذا قدموا على يوم القيامة، فإن أول هديتى إليهم أن أكشف لهم عن وجهى حتى ينظروا إلى وأنظر إليهم، ثم لهم عندى ما لا يعلمه غيرى.
ثم قال أبوسليمان لأحمد بن أبى الحوارى:
يا أحمد.. إن فاتنى ما ذكرت لك فيحق لى أن أبكى دماً بعد الدموع.
قال أحمد: فأخذت معه بالبكاء.. ثم خرجت من عنده وتركته بالباب.
ومن كلام العارفين وصية جعفر الصادق لولده حين قال له:
يا بنى.. من رضى بما قسم له استغنى. ومن مد عينه إلى ما فى يد غيره مات فقيراً. ومن لم يرض بما قسمه الله له اتهم الله فى قضائه.
ومن استصغر زلة نفسه استعظم زلة غيره.
ومن استصغر زلة غيره، استعظم زلة نفسه.
يا بنى.. من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته. ومن سل سيف البغى قتل به، ومن احتفر لأخيه بئراً سقط فيها.
ومن داخل السفهاء حقر، ومن خالط العلماء وقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم.
يا بنى.. إياك أن تزرى بالرجال فيزرى بك.
وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك.
يا بنى.. قل الحق: لك أو عليك.
يا بنى.. كن لكتاب الله تالياً، وللسلام مفشياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً، ولمن قطعك واصلاً، ولمن سألك معطياً. وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء فى قلوب الرجال، وإياك والتعرض لعيوب الناس فمنزلة التعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف.
يا بنى.. إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه، فإن للجود معادن، وللمعادن أصولاً، وللأصول فروعاً، وللفروع ثماراً، ولا يطلب ثمر إلا بأصول، ولا أصل ثابت، إلا بمعدن طيب.
يا بنى.. إن زرت فزر الأخيار، ولا تزر الفجار، فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها.
يا بنى.. اقبل وصيتى، واحفظ مقالتى، فإنك إن حفظتها تعش سعيداً وتمت حميداً…. ورمضان كريم.