الإشكاليات المتجددة بين الدولة العميقة والموازية

بقلم محمد الكعبي
عندما تعيش الدول تداعيات الانهيار السياسي والضعف البنيوي في هيكلها التنظيمي والاداري والقضائي والمجتمعي والأمني تعاني من أمراض قاتلة على جميع المستويات، ومن تلك الامراض التي تعتلي جسد الدولة هو ظهور كيانات وتيارات تقوّض عملها وتعيق تقدمها وتجعلها في صراع داخلي وخارجي مستمر ومستدام ويأخذ اشكال وعناوين متعددة ومختلفة حسب الظروف الزمانية والمكانية والاقليمية والدولية والمجتمعية وحسب شكل النظام السياسي الحاكم لكل بلد، ومن تلك الامراض هو نشوء الدولة الموازية، وهو مرض يصعب كشفه لأنه يسري ببطئ و ينخر الدولة من الداخل، حتى يستفحل فينقض على الجسد الحقيقي ويأكله تماماً.
الدول المتقدمة والمتحضرة تكمن قوتها وقدرتها من خلال مؤسساتها ودستورها ومقدرتها على الفصل بين السلطات ونظامها الديمقراطي وبدولتها العميقة و التي تعمل تحت غطاء واشراف الحكومة الرسمية وتكتسب شرعيتها منها، فمصطلح الدولة العميقة هو شكل من الاشكال التي تعتبر من عناصر قوة الحكومة خلاف الدولة الموازية كما سنبيّن.
الدولة العميقة( Deep state): هي مجموعة من الهيئات أو المؤسسات أو المنظمات والتشكيلات التي تعمل في الخفاء وتحت ضل نظام مؤسساتي واشراف الحكومة المركزية، والتي تعتبر قوة ومساعد ومعاضد للدولة الفعلية من خلال صنع القرار واعطاء الرؤية لتحقيق الاهداف وترفع المعوقات من أمام الدولة الرسمية، وكثيراً ما يتحقق مفهوم الدولة العميقة في الاجهزة الأمنية والأمن الوطني والمخابرات، وهذا هو الجانب الايجابي في الدولة العميقة كما هو المعمول به في امريكا وبريطانيا وبعض الدول الاخرى من خلال أجهزة الأمن والمخابرات والتي تعمل بنظام سري دقيق ولها خصوصياتها ومشاريعها واهدافها وهي في ذات الوقت لا تتعارض مع الخطوط العامة للحكومة الفعلية وتحافظ على الأمن القومي للبلد.
أما الجانب السلبي في الدولة العميقة، هو خروجها عن وظيفتها الاصلية والتي لأجلها أُسست وأُنشأت فيكمن في توسعها وتحكمها في النظام السياسي وفرض إرادتها على الدولة الفعلية وقد تصل إلى انقلابها على الدولة الرسمية وهذا ليس ببعيد لأن الدولة العميقة لها أذرع في جميع المؤسسات وتفرض سيطرتها عليها، وتمتلك مفاتيح اغلب الاقفال المهمة والحساسة.
أن بعض المؤرخين السياسيين الأتراك يذهبون إلى ان استخدام مصطلح (الدولة العميقة) يعود إلى الجمعية السرية التي أنشأها السلطان سليم الثالث 1761-1808 م، ككيان وتنظيم لحمايته بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها وهو عائد من حربه مع روسيا والنمسا.
أنشاء مصطفى كمال اتاتورك عام 1923م، شبكة سرية متكونة من ضباط الجيش والشرطة والقضاة
وغيرهم , مهمتهم القيام بأعمال سرية تهدف إلى حماية الدولة التركية ومحاربة أي محاولة لزعزعة أمنها سياسياً وثقافياً واجتماعياً.
وما توقيع قانون الأمن القومي الامريكي( The National Security Act) عام 1947م، من قبل الرئيس (هاري ترومان) والذي تأسست من خلاله وكالة الاستخبارات المركزية CIA، ووكالة الامن القومي NSA، واغلب الاجهزة الأمنية في امريكا، والتي تعمل من أجل الحفاض على المصالح العليا الأميركية، إلا تأييد لما ذهبنا اليه من التفريق بينها وبين الموازية وان الدولة العميقة هي من مصادر قوة الدولة الرسمية.
واذا ارادت الحكومة الرسمية أن تحمي نفسها من قبضة الدولة العميقة بجانبها السلبي، عليها الالتزام بالدستور والفصل بين السلطات الثلاث، وتفعيل الدور الرقابي والتشريعي والقضائي، واجراء تغيير وتبديل في المناصب العليا والادارات ومراقبتها ومتابعتها من خلال اللجان المباشرة والغير مباشرة، وبسط هيبة الدولة الرسمية داخل المؤسسات والمحاسبة الشديدة والفورية وعدم تفضيل البعض على حساب البعض الآخر ، وتعزيز دور الا علام، وجعل الجماهير قدر الامكان تقف بجانب الحكومة الفعلية.
اما الدولة الموازية(parallel state)و الذي صاغه المؤرخ الأمريكي( Robert Paxton) يقول هي مجموعة المنظمات أو المؤسسات التي تشبه الدولة في تنظيمها وإدارتها وهيكلها، ولكنها ليست رسمياً جزء من الدولة الشرعية أو الحكومة. اضافة إلى ما قاله، اقول: هي مجموعة من الاحزاب والتيارات والشخصيات الخارجة عن القانون والمليشيات التي تملك المال والسلاح والرجال وتمتلك القوة والقدرة وتعمل على تحقيق مصالحها الخاصة، وتعمل بشكل مستقل عن الدولة الفعلية وتعتبر نفسها فوق القانون، وقد تكون شريكة في النظام السياسي الرسمي ولها وزراء وقضاة واعضاء في جميع الدوائر وفي الاعلام والفن وغيرها، ولها كيانها وهيئاتها وشبكاتها الادارية، و تعمل الدولة الموازية لنفسها تماماً وبعرض الدولة الرسمية، وهذا افراز طبيعي نتيجة الضعف و الفشل الذي يصيب النظام السياسي الرسمي في البلد، والفساد الاداري والاقتصادي والأمني والثقافي والسياسي والمحاصصة والاستقواء السياسي وضعف الرقابة و الفشل على مستوى القضاء والخدمات وغياب العدالة الاجتماعية واهمال التعليم ، وفقدان المواطن روح الانتماء للوطن وتوجهه إلى عناوين فرعية وفقدانه الابوة من قبل الحكومة الشرعية، وتعدد الولاءات والانتماءات بعيدا عن الانتماء الوطني وغيرها اسباب ومناخات مشجعة ومحفزة لظهور الدولة الموازية.
وتختلف الدولة الموازية بالأهداف والمناهج والاستراتيجيات مع الدولة الرسمية وتعارضها وتحاول ان تنقض عليها وتستغل كل نقطة ضعف لمصلحتها، وقد تستخدم الدولة الموازية لجميع موارد الدولة الرسمية لتحقيق اهدافها وتقويض الحكومة المركزية مما يشكل تهديداً لاقتصاد وأمن وسيادة البلد بل وتخترق القانون وتتحايل عليه بشكل دائم، وبعض الاحيان يكون لها كيان مستقل بعيداً عن الحكومة الرسمية بل قد يصل إلى ان تجعل لها وزراء وبرلمان وحدود خاصة بها، والدولة الموازية تشبه الدولة الفعلية من ناحية امتلاكها الجانب السياسي والاقتصادي والعسكري والمالي والاعلامي والتشريعي والتنفيذي وغيرها، وكلها تتحرك بنسق وانسجام وبدون تعارض أو تصادم من اجل تحقيق مصلحتها الخاصة والتي من اهم اهدافها اضعاف الدولة الشرعية ثم افشالها وصولاً الى مرحلة الانهيار و بالتالي موت الدولة الرسمية, وهي بهذا الجانب تشبه الدولة العميقة بجانبها السلبي.
ظهور دولتان في بلد ما مؤشر خطير ينذر بانهياره ودماره وضياع حقوق ابنائه، وعلاجها قد يكون صعب جدا ويحتاج إلى آليات قد لا تتوفر بسهولة، وأصعب ما تمر به الدول هو بروز الدولة الموازية المتمثلة برجال الدين والزعامات الاجتماعية والعشائرية والحزبية ورجال الاعمال والعصابات المنظمة الذين يحاولون التغلغل داخل الدولة الرسمية لغرض حمايتهم واستغلال موارد الدولة وحصانتها لتحقيق أهدافهم وهذه الظاهرة تنتشر في المجتمعات التي تفتقر للديمقراطية الحقيقية وتعاني من ضعف القانون والأمن والمراقبة وفقدان العدالة الاجتماعية وعدم الفصل بين السلطات وعدم الالتزام بالدستور.
المال والسلطة مطلب يسعى اليه رجال الدولة الموازية ، وما عملية التخادم بين المال والسلطة الا صورة تحكي عن قدرة الدولة الموازية مقابل الرسمية، وللدولة الموازية اذرع مالية وسياسية واقتصادية وجماهيرية وقضائية وأمنية وتنفيذية تعمل تحت أشراف شخص أو جهة تحكمها جميعا وتعمل لأجله، مع ضمان عدم التزاحم بين الاذرع وتكون سد منيع أمام كل خطر يهدد مصالحها وتحاول الدولة الموازية ان تكون اقوى من الفعلية لتحمي نفسها من المحاسبة والملاحقة، وتبقى تحافظ على كيانها ومكاسبها السياسية والمالية والاجتماعية حتى لو اضطرت إلى المواجهة العسكرية.
يجب أن تقوم الدولة الرسمية بخطوات لتحول دون ظهور الدولة الموازية، ومنها بسط سلطتها وهيبتها وسيادتها ويتحقق هذا من خلال الالتزام بالدستور والفصل بين السلطات وتقوية القضاء وتفعيل دور الاعلام والجهات الرقابية والحسابية، واشراك الجماهير في محاربة كل ظواهر الفساد والانحراف وتفعيل دور البرلمان والمنظمات المجتمعية والاحزاب و تحقيق الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق القانون على الجميع وبدون محاباة، وتقوية أجهزة الأمن والمساواة بالحقوق والواجبات مع تساوي الفرص للمواطنين، وتقديم الخدمات وسد الثغرات التي يمكن ان تستغلها الدولة الموازية من فقر وجوع وبطالة، وتنشيط دور التعليم والثقافة وتفعيل دور المصالحة المجتمعية ومحاربة الفساد بكل اشكاله والابتعاد عن المحاصصة والخطاب الفئوي وعلى الحكومة الفعلية العمل بروح أبويه مع الجميع، وتشريع قوانين تضبط حركة الاحزاب ونشاطها ومصادرها المالية، وتحجيم دور التيارات والشخصيات البارزة والحد من نفوذها من خلال اخضاعها إلى سلطة القانون الرسمي للدولة وعدم التساهل مع الخارجين عن القانون، والمحاباة مع الاحزاب والتيارات والشخصيات البارزة وغيرها من المعالجات التي تحد من النشاطات التي تولد ظاهرة الدولة الموازية.
ويمكن أن تكون عدة دول موازية في زمان ومكان واحد، وإلى الله المشتكى ، مسكين يا بلد الانبياء، فكم دولة موازية تحكمك يا ترى؟ .

شاهد أيضاً

“المستشار بين دور البناء ومعول الهدم”

  سمير السعد من المؤكد أن وجود المستشارين يُعدّ ضرورة حتمية في منظومة اتخاذ القرار …