حوار: حورية عبيدة
اخْلَعْ نَعلَيْكَ.. فما إن تدلف لحَرم بيتها حتى يملؤك فَيضُ أحاسيس رائقة بأنّك في حضرة مُتحفٍ فنيّ ذي رونقٍ أخّاذ، شعورٌ باذخٌ بالفرح وأنتَ تلِج جنّةً غنّاء تطل بدَورها من الطابق الحادي عشر على مساحاتٍ شاسعةٍ من الشّجر الكثيف ويكأنكَ تسكن السّحاب! مكتبةٌ شديدة الأناقة عامرة بنفائس الكُتب والمخطوطات بلغاتٍ عدّة.
سكينةٌ تغمر المعتمرين إلى رقيٍّ وعِلمٍ وفنٍ عُمره من البهاء والعطاء سِتّة وثمانون عامًا؛ تحملهم بهدوء سيدة.. كأنّها خرجت لتوها من زمن: الجَمال والأدب والنّبل والأناقة الأرستقراطية! بَيْدَ أنّك ما إن تقعد في حضرتها حتى ينداح عطْر تواضعها؛ فيُهيأ لك أنك بِتُّ كبيرًا!.. فأهمسُ في أذنيك يا مسكين: كُفْ عن غرورك؛ فالصّغيرُ في حَضرة الكبير كبيرٌ!
رغم سنوات عمرها المديد -بإذن الله- إلا أنّها تتحرك بخفّة فراشة! أَرجِئ دهشتك قليلًا -قارئي العزيز- فالقادم أشدّ دهشة، فضيفتنا شديدة الحفاوة بزائريها؛ تأبَى المساعدة رغم أنها تعيش بمفردها؛ ربما خوفًا من أن تضع -أنت- شيئًا في غير محله وهي المُرتّبة الدقيقة! تغدق عليك بكرمٍ حاتميّ من ابتسامتها الراقية وهدوئها الآسِر اللذَين لا يفارقانها، فقط انتبه واخفض ناظريكَ قليلًا -خِلسةً أو عن قصدٍ- كيلا يفوتك أن تلمح أناملها العابرة للمواهب؛ فبها ترسم وهي الفنانة التشكيلية صاحبة أول دكتوراه عن “فان جوخ”، وبها تكتب الشّعر والرواية بمدادٍ مِن حبر رُوحها.
لكنكَ لن تُصدق أن الأنامل الرقيقة -عينها- تزأر كأسدٍ هصور لا يخاف في الحق لومة لائم.. لتهدي المكتبة الإسلامية عشراتٍ من الكتب والأبحاث والمقالات والرسائل تَذود بها عن القرآن، وتُجابه كل من يريد النّيل من عقيدتنا، وتُنافح عن حِياض الأُمّة، وفي سبيل ذلك تقف بشموخٍ أمام الملوك؛ والرؤساء؛ وبابا الفاتيكان؛ تفضح الخطط تارة؛ وتزيح الغَبْشة عن أعينهم تارة أخرى!
الدكتورة زينب عبد العزيز أستاذ الحضارة والأدب الفرنسي؛ الباحثة؛ الفنّانة التشكيلية؛ الشّاعرة؛ الروائية التي اعتادت المعارك الفكرية، تعرّضتْ لثلاث محاولات اغتيال لإصرارها على فضح مؤامرات “الفاتيكان” وحملات التّبشير الغربية، أغضبتْ ملك المغرب السابق، وبابا الفاتيكان، واكتشفتْ 1350 خطأ في ترجمة: مجمع الملك فهد لمعاني القرآن، ورُشّحت مرتين -مِن قِبل جامعة الزقازيق والمنوفية- لجائزة المَلك فَيصل في مجال خدمة العلوم.
تصدّتْ للرئيس الفرنسي “جاك شيراك”، ومن بعده “ماكرون”، وهي العليمة بلسانهما وحضارتهما وما يضمران للنَّيل من الإسلام، فنّدَتْ ترجمات المستشرقين -أذرع الصليبية على حد تعبيرها- وخاضت معارك ضد ترجمة: “جاك بيرك” و”أندريه شوراكيه” وغيرهما، ولم لا وهي أول مسلمة في التاريخ تترجم معاني القرآن الكريم للغة الفرنسية! وقد حفظت القرآن الكريم مذ الصّغر، ودفعها والدها لتعلم الفرنسية سيّما وأنه كان متقنًا للفرنسية والإنجليزية والإيطالية.
عنها كَتب ثروت عكاشة -وزير الثقافة ونائب رئيس الوزراء الأسبق- مقالا: “بعنوان خمسون عامًا من العطاء”، بينما أراد رئيس هيئة الفنون الأسبق ذبحها -على حد قوله بسبب معاركها الفكرية- فمنع مشاركتها في المعارض الفنية وهي الفنانة التشكيلية الحاصلة على أول دكتوراه عن “فان جوخ”! فأقامت على نفقتها الخاصة 52 معرضًا تشكيليًّا.
ساندها الشيخ “جاد الحق علي جاد الحق” شيخ الأزهر الأسبق وثمّنَ عطاءها ورؤاها، واختيرت عضوًا بالأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء الإسلام، لكنّها رفضتْ العمل بالجامعات خارج مصر، ولمّا تقبّل ربها جهدها وإخلاصها بقبولٍ حَسن؛ أسرَى بحرفها إلى الملأ.. فكانت الأستاذة بجامعة الأزهر والزقازيق والمنوفية، والباحثة التي أنفقتْ جل عمرها في الفحص والتمحيص، تذبّ عن كتاب الله؛ فدخلتْ الموسوعات العالمية كباحثةٍ وفنّانة، حباها ربي بذاكرةٍ فولاذية تنحني أمامها أعناق المدّعين الكارهين لتصبح فريتهم نْسيًا منْسِيًّا.
بعُمْر الأربعة عشر تزوّجتْ الفنّان والمَثّال “لطفي الطّنبولي”؛ الذي نحت لها تمثالًا أخضر بلون عمرها اليانع، تحتفظ به كأيقونة شاهدة على أروع “ستين عامًا” هي عمْر رحلة جمعتهما ملؤها الحُب والفنّ والبحث والمُنافحة عن الوطن والعقيدة؛ فكان حقيقًا على دمعها أن ينسال في صمت كلما طاف الحبيبُ ببالها طيلة ثماني سنوات غادر دنياها ولم يغادر قلبها وعقلها.. قد كان الزّوج الصديق والحبيب والأب والمُعلم والقُدوة.
في الأسكندرية كان المَولد والمَنشأ -من جذورٍ تركية بعيدة- تعلّمتْ في مدارس “الإرساليات”، وكانوا على وشْك تنصيرها -كما فعلوا مع صديقتها- لولا جَدتها التي لاحظتْ أن الطّفلة تُصلي صلاة المسلمين والمسيحيين معًا ببراءةٍ شديدة!
في بداية حوارها معي استأذنتْ لتضع رِجلًا على رِجل لأسباب صحيّة قائلة بحياءٍ شديد: “بس ده في الإتيكيت عيب وما يصحش”! فأحرجتني لأنّي كدتُ أن أقوم بنفْس الفَعلة!
يمتد الحوار بيننا لساعات طوال حتى أُرهِقتْ الأستاذة، فقمتُ لمطبخها مسرعة أُعِد الشّاي؛ فإذ بها تغُذّ الخطو نحوي وتنبهني بأنّها وحدّها تعرف ترتيب أدواتها، ولا تحب يدًا تُخلّ به؛ وأصرّت على إعداده بنفسها!