الفينيقيون أسياد البحار في العالم القديم

بقلم – مروة الحمامصي

 

ماذا يفعل الانسان إذا وجد نفسه يعيش على شريط ساحلي ضيق , لايزيد طوله عن مائتي ميل , ولا يزيد عرضه على 35 ميل , كثير الخلجان , متعدد المواني , يحده من الشرق الجبال المغطاة بأشجار الأرز والصنوبر والسرو التي قد تقترب من الساحل في بعض المواضع لتلاصق البحر , فتفصل أحيانا كثيرة بين الأقاليم الناشئة على الساحل , و جزر قريبة من الساحل انتقل ايضا للعيش عليها . ذلك كان حال الانسان الفينيقي في العصر القديم أو مايسمى الآن بلبنان . وتعد فينيقيا من أصغر دويلات العالم القديم , عرف سكانها الاستفادة من امكانياتهم الطبيعية ليكونوا حضارة عابرة للحدود , فقد كان عدد السكان يزيد ومساحة أراضيهم محدودة للسكن والزراعة , وكانت الغابات القريبة منهم غنية بالخشب الذي يصلح لبناء السفن , فكانت البداية بصيد الأسماك والبحث عن الزجاج أو الصلصال , ومبادلة السلع البسيطة مع المناطق المحيطة , ثم زادت الرغبة في ركوب البحر بعد القرن الثالث عشر الميلادي , حينما ضغط عليهم الأراميون في وسط سوريا , وأحاط بهم الاسرائيليون والفلسطينيون من الجنوب . فكان الحل الوحيد هو الهجرة بأعداد كبيرة .

وكانت البداية عندما كونوا محطات ومراكز في الأماكن التي تستقر بها سفنهم , فكانت في أول الأمر أماكن للراحة لأيام معدودة ,ثم زادت وتوسعت الأعداد وطالت فترات الاقامة , وخلال هذا التطور زادت قدراتهم البحرية فصنعوا في البداية الزوارق المكشوفة التي لاتقدر على مواجهة الأمواج العاتية , ولاتحمل سلعاً كثيرة , مصنوعة من خشب الأرز , مدهونة بالقار النباتي الذي قد يسرب الماء , ثم تطورت القوارب لسفن أكبر حجماً ذات مجاديف وأشرعة . ثم أصبحت صناعة السفن الضخمة من اختصاصهم وبعدت بهم المسافات وبرعوا في فن الملاحة واستعانوا بالنجم القطبي , وأبحروا ليلا بالاستعانة بالنجوم , حتى أن أسماء النجوم الاغريقية هي نفسها الأسماء الفينيقية , وكانت لهم خطط مرسومة ولهم من الخبرات الطويلة أن سلكوا طرقاً بحرية لم يعرفها غيرهم وأصبحوا أصحابها . مثل طريقهم الأشهر الذي يمر من صيدا إلى صور ثم يمر بمصر أو يتجه لقبرص ثم يتجه غرباً إلى طوروس وليسيا , عن طريق رودس وكريت ثم صقلية , ثم شمال أفريقيا ثم أسبانيا , وكانت لهم طرق أخرى تتجه للشمال أو الجنوب , فكانوا أول أمة بحرية في التاريخ جمعت بين نشاط البر و البحر . وكان من تقدمهم في انشاءالمراكز أن كانت لهم مراكز داخلية تصل موانئهم بالخليج العربي منها ” اديسا” أو أورفة حاليا بتركيا ,وكانوا تجارا مهرة يأخذون الفضة و الحديد و القصدير والرصاص من أسبانيا , والرقيق و أواني النحاس الأصفر من” ايونيا “تقع قرب ازمير بتركيا حاليا , والكتان من مصر والخراف والماعز من شبه الجزيرة العربية , وذكر “هيرودوت ” أن توابل بلاد العرب كان الفينيقيون يجلبونها ايضا.

   وإذا كان الفينيقيون قد تاجروا وبرعوا في الملاحة و أنشئوا محطات للاستراحة , فقد تطور الأمر حتى وصل لإنشاء مدن فينيقية , أما إذا كان الفينيقيون يتعاملون مع حكومات قوية فإنهم يكتفون بوكالات تجارية , وبشراء حق حرية التجارة , حيث ذكر هيرودوت أن الفينيقيون استقروا عند مصب النيل ويقصد “منف” وكونوا حياً سموه “معسكر الصوريين ” وكان به معبد حسب وصف المؤرخ أنها ” أفروديت الاجنبية ” ويرجح أن لعشتار . وكان لفينيقيا سلعاً محلية اشتهرت بها , وهي : الخشب والقمح و الزيت و الخمر , فأخشاب فينيقيا الجيدة كانت تستوردها مصر والعراق لبناء المعابد والقصور وقوارب الصيد والسفن التجارية والضخمة أما الاخشاب المستقيمة والمستديرة فقد طلبت لذاتها ثم لاستجراج القار والراتنج العازل للماء اللازم للسفن وكانت اليونان تستورد أخشاب الأرز , ثم تطورت صناعتهم فاشتهروا بصناعة المنسوجات والصناعات المعدنية. ولشهرتهم استعان بهم حكام العالم القديم في الرحلات البحرية , مثل “نخاو الثاني” ملك مصر , “610-590ق.م ” في رحلته حول افريقيا عن طرق رأس الرجاء الصالح في رحلة استغرقت ثلاثة أعوام . و آيضا النبي سليمان عليه السلام “960-922ق.م ” اتفق مع “حيرام ” ملك صور , على انشاء اسطولاً في ميناء “عصيون جابر ” بالاستعانة بالبحارة الفينيقيين , وايضا ذكر في التوراة أن “حيرام ” ارسل اسطوله مع اسطول “سليمان ” عليه السلام إلى “أوفير ” – يرجح أنها جنوب غرب الجزيرة العربية – , وأتى من هناك بالذهب والأخشاب النادرة و الأحجار النفيسة .

   وجدير بالذكر أن الفينيقيون كانت لهم سياسة خاصة في تكوين محطات الاستقرار أو المدن الجديدة , كانوا يدخلون بأعداد القليلة حتى لايثيرون أي شك , وكانوا يتداخلون سريعاً مع المجتمع المحيط خاصة أنه لم يكن لهم توجه سياسي معين , وبعد أن يتم الاستقرار يبدأون بالتواصل مع المدن الفينيقية الأم , وارسال منتجات البلاد المضيفة إليها . فانتشرت مستعمراتهم من رأس الدلتا بمصر وحتى ساحل قليقية باليونان , وكذلك في جزر المتوسط في قبرص ورودس ثم صقلية و سردينيا , ثم وصلت حركة انشاء المستعمرات لذروتها في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد . بأشهر المستعمرات قاطبة وهي” قرطاج ” في تونس , وقد تخطوا مضيق جبل طارق للمحيط الأطلنطي , وأنشأوا مستعمرة “قادس ” قرب مصب الوادي الكبير على شاطئ أسبانيا الغربي , حيث كانوا يشحنون الفضة الأسبانية . وكانت في أسبانيا ايضاً مستعمرات فينيقية , منها : “مقة” أو ملاكة بالفينيقية ومعنى اسمها “دكان ” أو معمل صغير , ويذكر “سترابو” أن الفينيقيون كان لهم مكاناً لتمليح السمك, وعثر في “قرطبة على نقود تحمل حروفاً فينيقية . وكانت أهم مراكزهم في جزر المتوسط هي صقلية ,و كانت محطة لسفرهم لمضيق جبل طارق , فكان لهم محطة في “بانورموس” أو باليرمو على أحد الخلجان و”سوليئس” عند أحد الرؤوس , و “موتيا” على جزيرة في بطن الخليج شمال رأس ليلييه , والتي كانت القاعدة الأساسية التي انطلقت منها قرطاج في حروبها الصقلية حتى حوصرت ودمرت عام 398 ق.م.

ويذكر ديودور الصقلي أن الفينيقيون اتخذوا من مالطا وجولوس مراكز لسفنهم حيث تربط شرق المتوسط وغربه . وقد عثر في “سولكس” بسردينيا على فخار فينيقي , وكذلك في “كارالس “كالياري حالياً , أما “نورا” فكان بها قلعة فينيقية ومقابر من القرن السادس ق. م ومابعده وايضاً معبداً للمعبود “تانيت ” ومجموعة كبيرة من اللوحات والأواني الجنائزية.  أما بلاد اليونان , فقد انتشرت بها الأسماء السامية , وبعض المعبودات اليونانية تأثرت بالديانة السامية . أما أعظم المدن التي أسسها الفينيقيون خارج لبنان كانت “قرطاج” بالقرب من مدينة “تونس” حالياً , تأسست عام 814 ق.م , واسطورة نشأتها تروي أن “اليسا” ابنة ملك صور “متان” , هربت لشمال أفريقيا بسبب ظلم أخيها ” بيجماليون ” وسميت بالمدينة الحديثة أو ” قرت حدشت ” ثم حرفت إلى “قرطاج ” . وكانت “قرطاج ” تابعة لصور ترسل لها كل عام عشر دخلها , وكذلك رسولاً يقدم القرابين لمعبود صور” ملقارت “. ولكن بعد أن هجمات الملك البابلي “نبوخذ نصر” “605-562ق.م ” ضعفت “صور” ” فتولت “قرطاج” زمام السلطة منها في سيادة مستعمرات فينيقيا في وسط البحر المتوسط , بل أسست مستعمرات جديدة مثل مستعمرة جزيرة “اليسا” بين سردينيا واسبانيا , ومستعمرة على شواطئ “مينوركا ” بجزر البليار .  غير أن الظروف تغيرت وقويت شوكة أمة بحرية تجارية ارادت أن تنافس “قرطاج” وهم اليونانيون , فكانت البداية في صقلية مع بدايات القرن السادس قبل الميلاد , فلم تستطع “صور” أن توقف  الطموح اليوناني في الفوز بالجزيرة حيث كانت تتعرض لهجمات آشورية وبابلية كلدانية , فتصدت “قرطاج” لتلك المطامع اليونانية , ثم حطت العناصر اليونانية على الساحل الليبي في “طرابلس” لمنافسة “قرطاج” , وظهرت “فارس” كقوة منافسة فقد دخلت مصر عام 525ق.م , فتطلعت للمراكز الفينيقية في شمال افريقيا ومنها “قرطاج” , فحدث الصدام بين الطرفين , ولكن البحارة الفينيقيون امتنعوا عن تنفيذ أوامر الأسطول الفارسي .  ثم نشبت الحرب بين اليونان و”قرطاج” , عام 550ق.م , ونجح ملك قرطاج “ملخوس” في هزيمة وطرد اليونانيين في صقلية , ولكن ذلك لم يدم فقد هزمه اليونانيون في سردينيا فكان عقابه النفي من “قرطاج” على يد مواطنيه , فتحول للحرب ضد “قرطاج” وتولى حكمها عنوة , ثم جاء ابنه “ماجون” وكان ملكاً قوياً , وفي عام 535ق.م , انتصر الأسطول الفينيقي على غريمه اليوناني , ونتيجة لذلك طرد القرطاجيون اليونانيين من “كورسيكا” وأحلوا محلهم أهل “اتروريا” . وقد كان لأهل “قرطاج” أكثر من مكان في اسبانيا , فأصبحت سيطرة قرطاج على سواحل المتوسط تبدأ من حدود ليبيا حتى أعمدة “هيركوليس”أو مضيق جبال طارق وجزر المتوسط البليارد ومالطة وسردينيا , وخرجت لسواحل أسبانيا والغال , فإذا كانت صيدا وصور لم تستطع أن تكون امبراطورية لقوة مصر وآشور , فقد استطاعت قرطاج  ذلك .

وطوال القرن الخامس قبل الميلاد كانت “قرطاج” في حروب على أرض صقلية , فاستقوت قرطاج بقوة ناشئة هي “روما” فدخلت معها في حلف عام 509ق.م . ولكن السلام لم يدم مع روما فقد اصطدمت القوتان في حرب سميت بالحرب البونية الأولى “268-241ق.م ” كان النصر البحري فيها للرومان , ولكنهم فشلوا في افريقية , فاستعانوا هذه المرة بأهل صقلية ضد قرطاج فكان النصر حليفهم . وظل الثأر يشغل بال أهل قرطاج فكان القائد القرطاجي “هانيبال” أو “حاني بعل ” بمعنى “نعمة بعل” واحد من هؤلاء وظل الثأر مراده حتى شرع الهجوم على روما في عقر دارها , ملتفاً حولها من أسبانيا ماراً بجبال الألب , في قتال استمر 15 عاماً هوجمت فيها “روما” نفسها ” , إلا أن الرومان وجدوا أن الحل في مهاجمة قرطاج ليسرع بنجدتها “هانيبال” ويخفف من وطأة قبضته على روما وبالفعل تم استدعائه لأفريقية لمهاجمة الرومان لها فحدث اشتباك في معركة ضخمة سميت بمعركة “زاما” عهام 202ق.م . هزم فيها الجيش القرطاجي المنهك في حروب دامت طوال 17 عاماً خارج أراضيه , وطلب مجلس الشيوخ القرطاجي السلام من روما   ولكن “هانيبال ” لم يستسلم فقد هرب عام 196ق.م إلى صور , ثم اشترك مع  ملك سوريا “أنطيوخس” في حربه ضد روما , التي كان النصر حليفها , فانتحر لذلك “هانيبال” عام 183ق.م .  ولكن مازال في قلوب أهل قرطاج الرغبة في الحكم والسيادة في غرب المتوسط وكذلك الانتقام فقامت الحرب البونية الثالثة “149-146ق.م ” انتصر فيها الرومان ووجدوا الحل في تخريب قرطاج تماماً وحرقت لمدة 17 يوماً . وحرم بناء أي مساكن موضع المدينة التي خربت , ثم جاءت روما بعد ذلك بأربع وعشرين سنة لتبني مدينة رومانية جديدة محلها . وللفينيقيين مستعمرات أخرى غير قرطاج في شمال افريقيه , منها “اوتيكا” أو عتيقة بمعنى القديمة حيث كانت أقدم مستعمرة فينيقية في شمال أفريقيا أسستها “صور” عام 1100ق.م . عند مصب نهر بجراداس أهم أنهار تونس , وهناك مدينة “هيبو” أو بنزرت الحالية وكانت ميناءاً كبيراً على بحيرة بنزرت , وايضاً توجد مدينة “ليبتس ” بجوار خليج سرت ولم يكن لها مرفأ سوى مصب نهر , وهناك   ميناء فينيقي جنوب “موجادور” الحالية على شاطيء المغرب بين الدارالبيضاء وأجادير وكان ذلك أبعد ميناء فينيقي على ساحل شمال أفريقيا.

شاهد أيضاً

“سامي أبو سالم .. صوت غزة الذي لا يخبو تحت الحصار”

  سمير السعد في عالم الصحافة، حيث الكلمات قد تكون أقوى من السلاح، يقف الصحفي …