اخبار عاجلة

المشهد السياسي في تونس يكشف معركة طائفية بين رَجُليْ دين تعيدنا إلى إرث الفتنـــــة الكبري

بقلم د – ليلي الهمامي
فهم مفردات الازمة السياسية-الدستورية التي تعبرها تونس اليوم يحتاج تحديد اختلاف الرهانات والمصالح بين الاطراف المتنازِعة، تحديدا رئيس الجمهورية قيس سعيد وحركة النهضة. الصراع في جوهره، صراع نفوذ داخل نظام سياسي مفكك، يمنع الهيمنة المباشرة لأي طرف داخل جهاز الحكم.
منطلق الازمة كان صعود قيس سعيد إلى الحكم، في حين كان يمثل في ظهوره ترجمة بروز تيار شعبوي على أنقاض سلطة الاحزاب التي تشكلت بالمائات وسادت المشهد السياسي منذ جانفي 2011 ووُصِفَ قيس سعيد حينذاك ومنذ دخوله الدور الثاني للانتخابات الرئاسية بكونه مرشَّح التيار المعادي للمنظومة (anti-system) ، وبكونه يعتبر الديمقراطية التمثيلية (representative democracy)
نظامًا فاسدًا يصادر إرادة الشعب وينقلب عليها. وتمثل الاحزاب الركيزة الاولى لهذا النظام الذي يناصبه سعيّد العداء ويعتبره أصل تأزم الحياة العامّة في تونس.
وتؤكد الاحداث المتواترة أن حركة النهضة التي حاولت احتواء الموجة الشعبوية التي دفعت بسعيّد نحو قيادة البلاد، لم تقدّر في الإبان حجم الخطورة التي يمثلها قيس سعيد فيما يتعلق بوجودها ولم يكن اليسار بعيدًا عن هذا التمشي. )هذا اذا استبعدنا جدلا الاطراف الخارجية ودورها في توجيه الانتخابات(. فبعد خسارة اليسار الكارثية خلال الانتخابات التشريعية (حيث انحدر من كتلةٍ مثَّلتْهُ خلال الفترة النيابية 2014ـ2019 إلى مقعد واحد خلال انتخابات 2019) حاول اليسار ركوب موجة قيس سعيّد أمَلاً في اقتطاع جزء من هذا التيار “العفوي” الذي حمَلَهُ إلى قصر قرطاج، مهمِلاً أنَّ قيس سعيّد في الحقيقة أكثَرَ تشدُّدًا من حركة النهضة في ما يتعلق بالمرجع الديني ( قانون المساواة في الميراث، موقفه من المرأة، تطبيق الشريعة، اعتماد مرجعيات دينية في الخطاب السياسي في سياق قطعي خارج مجال الاستعمال الماكيافيلي للدين في الخطاب السياسي(. بمعنى أن خطاب سعيّد هو خطاب عقائديّ صرف هدفه سياسي لكن لا علاقة له بالاستعمال النفعي للمرجع الديني في سياق غايته الاقناع.
حقيقة الصراع بين سعيّد والنهضة تكمن في أن سعيّد يمكن أن يكون الجناح المتطرف داخل حركة النهضة، فهو أصولي لا يختلف في شيء عن جماعة الدعوة التي قام المؤتمر العاشر للنهضة بحجبها عن أنظار العالم والتي يمثلها الصادق شورو والحبيب اللوز. وبالفعل فإن من ينتبه إلى خطاب سعيّد يتفطّن أنّ الرجل داعية، لا يمارس السياسة لخضوعها لمبدإ التبدّل والتنسيب « relativism » والتنازل، وهو ما لا يستوعبه معجمه الديني المتعصّب « Dogmatic » فأداء اليمين لديه كالمرور على الصراط المستقيم “والحق بيّن والباطل بيّن” وليس بينهما منطقة وسطى. لذلك يرفض سعيّد التفاوض على الحق والباطل في سجلّه. ولأنّ الامر كذلك ، فالبون الفاصل بينه وبين الغنوشي الذي يبدو في ملامحه وريث الدولة الأموية المحمولة على طبقة التجار في توظيف الدين بما يخدم المصلحة، فالمتاجرة بالدين تطابق ما نصح به ماكيافيل الامير ” César Borgia ” من أن الحكم الناجع يفترض من الأمير أن يبدوَ للعامّةِ متديّنًا دون أن يكون بالفعل كذلك.
وإذا كان راشد الغنوشي أطلق مبادرة للقاء الرئاسات الثلاثة للتفاوض حول حل الأزمة، فإنه يعلم جيّدً أن سعيّد لن يتنازل عن رأيه أداء وزراء المشيشي لليمين أمامه، لكنه يقدّم تنازلا سيسترجعه خلال الأسبوع برفض سعيّد الإذن بتنظيم موكب أداء اليمين من الوزراء الجُدد. فالغنوشي يراكِمُ أَخطاءَ سعيّد إلى حين تُشَكَّلُ المحكمة الدستورية والحسم في أمره.
وبهذه المبادرة يسجّلُ راشد الغنوشي نقطة سياسية بالظهور بمظهر من يؤدي الدور التعديلي ومن يثابر في تقريب وجهات النظر: فهو اللَّيِّـــــــــــنُ المَــــــرِن، مقابل انغلاق سعيّد الذي يعجز عن أيّ تفاعل لالتزامِهِ “الطُّهُوريّة” Puritan في أداءه لمهامّه.
ليست المعركة كما تبدو لكثير من السطحيين معركةً بين رجلٍ “نظيف” ومنظومة فاسدة، وليست معركة بين رجل مبدئي حداثي وحركة دينيّـــــــة؛ هي فقط معركة طائفية بين رَجُليْ دين تعيدنا إلى إرث الفتنـــــة الكبرى، لعلّها معركة بين عليّ ومعاوية.
يبدو أن النهضة أدركت خطر قيس سعيّد وأن سعيّ وعى أن كل خطوة إلى الوراء ستقود إلى نهايته وأنّه محتاج في هذه المعركة لحشد الدعم الاجتماعي لعزل النهضة وتطويقها وهو ما سعى إليه خلال لقائاته الماراتونية الاسبوع الماضي لكنه يخفي هشاشة الاطراف التي حاول كسبها، وعجزها على دخول حلَبة المواجهة والذهاب الى الآخر(الاتحاد العام التونسي للشغل، عمادة المحامين، اتحاد المرأة ، النساء الديمقراطيات، نقابة الصحفيين).
وفي هذا السياق، وتأكيدًا لما سبق، أشار سعيّد خلال لقاءه برئيس نقابة الصحفيين بأنّ “الخطر يهدد حرية التفكير وليس التعبير” ولم يفهم عديد الاطراف قصد سعيّد بهذا القول. في حين أن المشكل الذي واجهه أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ الموعود بالمحكمة الدستورية، -في علاقة بمقترحه لامتحان قانون دستوري بجامعة سوسة- تضمّنَ موضوعًا حول الشريعة، ما أثار حفيظة زملائه، الذين اعتبروا أن الامتحان موجّهٌ إيديولوجيًّا. فعندما يثير سعيّد هذا الموضوع فهو يدافع عن أنصاره وحلفاءه وخطابه.
فالمعركة إذًا تخاض على أكثر من جبهة، ولأسباب ودوافع دينيّةٍ بالأساس. لذلك لن تُحسَمَ الازمة بالطرق السياسية التفاوضية، والمؤسف أن تونس هي من يدفع ثمن هذه العطالة وهذا الانغلاق. فكل المعارك السياسية التي أُقحِمَ فيها الديني انتهت إلى مآسٍ.
مستقبل تونس كما نراه تيار سياسي وسطي معتدل، يجمّع ولا يفرّق ولا يقصي، يحل الخلافات ولا يدعو للكراهية ولا للاقتتال، يعتني بالتأسيس للمستقبل، من أجل تونس حديثة، متطورة في ما تقدمه للعالم شكلا ومحتوى، حاضنة للمبادرة الحرة والابداع، معافاة من أمراض الماضي وتَبِعَاتِه وأحقادِه، استبدال لماضَوية ” Passeism ” طبقة سياسية اختارت تنازع جثث الماضي وأشباحه. أعتبر أن معركة تونس، معركتنا، من أجل التقدّم والرّقي والقطع مع كل المكبلات المعيقة لذلك.
بعض التيارات التي تسعى للاستفادة من مناهضة حركة النهضة والتي تحشد لفائدة مشروع غامض لن تصادف النجاح في تمشّيها الخارج عن سياق التاريخ والعقل. إذ تبيّن أن مهنتها الوحيدة معارضة النهضة، في حين تلازم الصمت تجاه الازمة الدستورية ـ السياسية الراهنة وتكتفي بمؤاخدة أخوية لقيس سعيّد على بعض التصرفات. فأيّ رابط يجمع سعيّد بهذه المرأة؟ ولعلني أسأل إن كان الرابط داخلي أم خارجي!؟
تقديري وإيماني أن تونس تستحق ما هو أفضل من هذه الطبقة السياسية المضحكة المبكية، العاجزة تمامًا عن أداء المهام الموكلة إليها في قيادة البلاد وإدارة شؤون الدولة. تونس في تصوري ستكون أفضل غدًا، إذا ما تخلّص الشعب من أوهامه، وأدرك حقيقة الفاعلين الحاليين ومن يقف وراءهم.
اليوم تقف النهضة في حالة انتظار وترقب لتوضيح الرئيس الامريكي لموقفه من الاسلام السياسي وهل يعتزم الذهاب إلى شوط ثانٍ من الربيع العربي أم لا. سياسة النهضة سياسة الحذر مع تأمين المواقع وتحصينها، وأغلب الظن أنها لن تذهب إلح تفعيل قرار النزول إلى الشارع إلا إذا ما تبيّن أن وجودها مهدد بخطر استئصال محدق.
هذا الاسبوع، نهايته، قد تكون حاسمة لموقف النهضة من سعيّد، ولخطتها الموجهة للتعاطي مع التحولات الدولية والإقليمية. بمعنى أن الأمر سيكون مرتبط بمصير الربيع والموقف الامريكي من الانظمة العربية المارقة.

شاهد أيضاً

صفوت عمران يكتب: 1965 فشلت إسرائيل في حكم دمشق ونجحت في 2024

  بقلم الكاتب الصحفى: صفوت عمران   في 1965 فشلت إسرائيل في اختراق النظام السوري …