بقلم الكاتب الصحفى علي الفاتح
كما كان للجغرافيا الدور الحاسم في صناعة التاريخ والحضارة المصرية، وبناء أقدم دولة، كانت ومازالت المركز لتطور حركة الإنسان بين العالمين القديم والحديث، كانت الجغرافيا أيضا سببا ليكون قارئ القرآن المصري الأقرب لآذان مستمعيه في كل أصقاع العالم.
حتى يومنا هذا، واستعدادا لاستقبال شهر رمضان تتسابق الدول الإسلامية، والجاليات المسلمة في مختلف دول العالم بطلباتها لاستقبال المقرئين المصريين لإحياء شعائر احتفالات الشهر الفضيل دون غيرهم من مقرئي القرآن في عالمنا العربي.
صوت القارئ المصري الأسرع وصولا لعقول وأفئدة مستمعيه باختلاف جغرافيتهم ولغاتهم ولهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم، اجتمع عليه سكان إفريقيا وآسيا بشرقيها الأوسط والأدنى وأبناء القارات البعيدة من أوروبا والأمريكتين إلى أستراليا.
القصة قديمة بدأت في المعابد المصرية مع المنشدين والمرتلين، الذين استخدموا الآلات الموسيقية المتنوعة في أنغامها ومقاماتها من الهارب إلى السمسمية، حفيدة القيثارة المصرية.
كان للموسيقى دورها في الرقي بروحانيات المصري القديم وصياغة منظومة قيمه وأخلاقياته التي ارتبطت دائما بالتسامح واللين.
امتدت تلك الحالة إلى الكنيسة المصرية مع دخول المسيحية، حيث تقدم الأناشيد والترانيم بأنغام مصرية خالصة حتى اليوم، ومعظمها يتشابه من حيث الإيقاع الموسيقي، والمعاني الدينية السمحة مع ما نستمع إليه من منشدين في حلقات الذكر داخل المساجد، وحارجها في حلقات المتصوفين.
قارئ القرآن المصري ابن ذلك التاريخ الروحاني والموسيقي، وبالأحرى هو ابن هذه الأرض المنبسطة التي ينساب فيها النيل بسلاسة، وصنع جداول يترقرق فيها الماء مصدرا أروع أنغام الطبيعة، وعلى ضفافه كانت الطبيعة الثرية بأصوات أشجارها وطيورها ومختلف كائناتها، هناك كان من الطبيعي أن يشدو الإنسان ساكن هذه الجغرافيا الحية والطبيعة المتنوعة بأعذب الألحان داخل المعابد وخارجها.
يقولون نزل القرآن في مكة وقرئ في مصر، وقد أصابت هذه المقولة كبد الحقيقة، فما أن يبدأ القارئ المصري تلاوته حتى يتملك قلوب وعقول من يصغون إليه، فهو يتنقل برشاقة بين المقامات الموسيقية السبعة ويمنح كل آية بحسب معانيها ودلالاتها المقام المناسب لها.
ومع تعدد معاني الآيات الكريمة تتعدد المقامات في بناء موسيقي عذب وسهل يناسب تماما الطبيعة المصرية.
هناك عشرات الدراسات المتخصصة، التي شرحت سر تميز القارئ المصري، ومنها ما أشار إلى ذلك الآداء الموسيقي الثري، في مقابل آداء المقرئين في دول الخليج العربي على سبيل المثال.
المدرسة الخليجية، إن صح التعبير، تستخدم مقاما موسيقيا واحدا هو مقام الراست، وبالمناسبة هو نفس المقام الذي يستخدمه الحادي فيما يعرف بفن الحدي، وهو التغني ببيت شعر واحد أثناء رعي الإبل، ويقابله في الصحراء الغربية المصرية وصحراء ليبيا ما يعرف بغنيوة العلم.
تنويع المقامات مع الصوت المصري العذب بحكم طبيعة اللغة واللهجة التي توارثنا أصواتها بحسب علماء المصريات، عبر أجدادنا المصريين القدماء يحول، حنجرة مقرئ القرآن إلى قيثارة تعمل بجد لإيصال معاني التسامح والخير والجمال، التي تتضمنها آيات القرآن.
بفضل البعثات التي تأتي لتلقي العلوم الدينية في الأزهر الشريف عبر مئات السنين نجد تأثيرها واضحا لدى مقرئ القرآن في ليبيا شرقا وغربا، وقد استفاد منها المقرئ في طرابلس الليبية التي طورت فن الموشحات الأندلسية المغاربي الى ما يعرف بالمالوف الطرابلسي وعندما تستمع إلى المقرئ الليبي تجد هذا التأثير للمالوف، وتعدد المقامات الموسيقية عند القارئ المصري.
وبالمثل تتميز المدرسة المغاربية لمقرئ القرآن، حيث تلتقط أذنك نغم الموشحات الأندلسية للمقرئين المغاربة على وجه الخصوص ولآدائهم متعة لها خصوصيتها وتأثيرها على المستمع.
طبيعة بلاد الشام الغناء التي لا تختلف كثيرا عن الطبيعة والبيئة المصرية إضافة إلى تأثير الأزهر تجد صدى مدرسة القارئ المصري لدى معظم مقرئي القرآن الشوام.
تقدم ليالي رمضان في الريف المصري، وأغلب المآذن، أصواتا محلية لا تقل عبقرية وبراعة وعذوبة عن أصوات المشاهير، لذلك ستبقى مصر ينبوعا متجددا يتدفق كل يوم بعشرات الأصوات التي ستحافظ على هذه المكانة المتقدمة للمقرأة المصرية.