المملكة شبه المتحدة ” أوراق من الصراع الأيرلندي الانجليزي “

بقلم – مروة الحمامصي

 

منذ أن تألق لاعب الكرة المصري محمد صلاح نجم فريق ليفربول الانجليزي , ازداد انتباه الجماهير المصرية و العربية للدوري الانجليزي , والذي يعتبر من أشهر و أقوى بطولات الدوري على مستوى العالم , وبوجه عام فإن المنتخب الانجليزي فريق لا يستهان به , فكرة القدم الانجليزية هي بداية كرة القدم الحديثة , والمنتخب الانجليزي كان شريكاً في أول مباراة دولية ضد المنتخب الاسكتلندي وذلك عام 1872م , والمفروض أن تلك مباراة دولية بين دولتين متنافستين  إلا أن انجلترا و اسكتلندا كانتا جزءاً من دولة واحدة يحكمهما حاكم واحد, ومع ذلك تلعبان ضد بعضهما وحتى الآن ذلك الوضع مستمربالإضافة لمنافسهم الأخ اللدود المنتخب الأيرلندي , وقد البعض يتساءل عن سبب الفرقة وقد لايعبأ البعض  فالمهم عنده مشاهدة المباراة .

والبعض منكم ايضاً قد شاهد فيلم التسعينات الشهير”Braveheart”أو القلب الشجاع – انتاج 1995م – للنجم “ميل جيبسون” ووجد فيه حروباً دموية بين انجلترا واسكتلندا وفيه انضمت أيرلندا إلى صف اسكتلندا , ومنكم من شاهد أفلاماً هوليودية شهيرة مثل فيلم “براد بيت وهاريسون فورد” ” The Devil’s Own – انتاج “1997”م- و فيلم الجميلة” جوليا روبرتس”  “Michael Collins “- انتاج 1996م- فوجد أن  العلاقة بين بريطانيا الأم و التي تمثلها انجلترا شديدة القسوة على الجزء الايرلندي والذي كان يرد بالعنف والثورة والتفجيرات لذلك ليس مستغربا لمن طالع التاريخ أن يجد تعاطف الشعب الأيرلندي مع القضية الفلسطينية بعد أن زرعت بريطانيا الكيان الصهيوني في أراضيهم بوعد وزير الخارجية “بلفور” بوطن لليهود على أرض فلسطين عام “1920”م ,  وكانت منظمة التحرير الفلسطينية حريصة منذ بدايتها على إقامة علاقات قوية مع بلد أوروبي يسبح ضد التيارالسياسي  الغربي , فالبلدان عرفتا طعم الظلم من الغريب الذي يريد طمس الهوية واستغلال الأرض حتى وإن كان جزء من جسد هذا الوطن تحت وطأة المحتل .

ولتتضح الرؤية شيئا فشيئا فالمملكة المتحدة أو بريطانيا المكونة من أربع أجزاء رئيسية , مقسمة على جزيرتين : الجزيرة الكبرى مكونة من انجلترا المسيطرة وويلز في الغرب واسكتلندا في الشمال , والجزيرة الأصغر مقسمة إلى جزئين الجزء الشمالي هو ايرلندا الشمالية ويتبع بريطانيا والباقي هو دولة مسقلة بذاتها هو جمهورية أيرلندا , وتاريخ الصراع طويل مر بمراحل مختلفة من الاتحاد القسري أو الطوعي , فالجزر البريطانية وفد إليها المهاجرون الأوروبيون واستقروا بها , وكان نصيب ايرلندا وويلز أن سكنهما المستضعفين من المهاجرين , وشيئا فشيئا أخذت شكل الحكومات تتضح على نظام القبلية بعد أن حدث هجوم نورماندي على الجزر البريطانية في الفترة من 1169: 1171م , لتنشأ الحيازة البابوية “لوردية ايرلندا ” والتي تتبع ملك انجلترا , ويبقى الحكم الاقطاعي حتى عام “1542”م , حيث انتهى الحكم الاقطاعي وأصبحت جزء من انجلترا تحت إمرة الملك هنري الثامن الملك الذي اعلن اتباع انجلترا المذهب البروتستاني وخرج عن البابوية الكاثوليكية في حين كانت الكاثوليكية مذهب أيرلندا ثم تأتي الظروف في غير صالح ايرلندا وذلك بعد وفاة ابنته ماري الاولى أو ماري الدموية التي جعلت الحرق من نصيب من تسول له نفسه اتباع البروتستانتية وأعادت بريطانيا لحظيرة البابوية فنالت التأييد البابوي من البابا بولس الرابع , بكونها ملكة على ايرلندا .

ثم توحدت بريطانيا عام 1603 م , تحت حكم الملك جيمس السادس ملك اسكتلندا أو جيمس الأول ملك بريطانيا ليهدأ الصراع الدموي الانجليزي الاسكتلندي الذي دام قروناً بين ملوك الدولتين ويأخذ تحت عباءته ايرلندا , ومن حين لآخر كانت تظهر المقاومة في شكل حروب : حرب الأحد عشر عام “1641 – 1653″م، والحرب الوليمية – نسبة للملك ويليام الثالث – في إيرلندا “1689 – 1691″م، واضطرابات أرما “من سبعينيات القرن الثامن عشر إلى تسعينياته”, والثورة الأيرلندية في عام” 1798″م, وقد انضمت ويلز عام “1707م” للمجموعة وظهرت بريطانيا العظمى , ثم تستبدل بريطانيا العظمى بالمملكة المتحدة وذلك بداية من 1 يناير 1800م .

ومنذ بداية الوحدة البريطانية وحتى ظهور المملكة المتحدة حدثت تغيرات جذرية على الصعيدين العالمي والداخلي , فبريطانيا أصبحت امبراطورية تسيطر على العديد من المناطق في الشرق ولا سيما الهند , واستفادت من ثروات العالم الجديد – حتى وان استقلت عنها الولايات المتحدة – وهزمت امبراطورية منافسة لها وهي فرنسا في حرب السنوات السبع”1756م – 1763″م , وبدأت منها الثورة الصناعية وهي الغنية بالفحم والحديد وصاحبة الأسطول الضخم عابر المحيطات , ولكن ليس كل مواطنوا بريطانيا من السعداء بهذا التقدم فأهل ايرلندا كانوا فقراء فجزيرتهم قليلة الموارد تغطيها المستنقعات والبحيرات , شبه منعزلين زراعتهم قليلة نظرً لفقر التربة وسوء الصرف وهطول الأمطار طوال العام تقريباً , فلم يجدوا نشاط سوى الرعي منعزلين عن التقدم الصناعي متمتعين باستقلال في الحضارة و المذهب الكاثوليكي و يجترون ذكريات لغتهم الأم التي تختلف عن الانجليزية ممنوعون من تملكِ الأراضي ومن التعليم ومن حق الانتخابِ ومن دخول البرلمان الأيرلندي بحجة أنهم كاثوليك -لم يدخل الايرلنديون البرلمان إلا في عام 1829م – وقد سنت الأقليةُ البروتستانتية الكثيرَ من القوانين التي أَفقرتْ الأكثرية الكاثوليكية طوال عقود طويلة ، وكان هناك قانوناً يُلزم الكاثوليك بتقسيم تركة الميت من الأرض بين الأبناء بالتساوي، وإذا ما تحول الإبن الأكبر إلى البروتستانتية يحصل على التركة كاملة. .

ثم تأتي الظروف المناخية لتزيد من فقر سكان ايرلندا حيث استمرت الأمطار في الهطول بغزارة , وأصيب محصول البطاطس بآفة انتقلت إليه عن طريق السفن القادمة من أمريكا الشمالية والذي بدوره جاء من المكسيك , فتلف المحصول الأساسي وهو البطاطس القادمة من أمريكا و الذي كان الغذاء والمورد الاقتصادي لعامة الشعب فتسبب في مجاعة كبرى حدثت بين “1845 :1852″م سميت بمجاعة البطاطس , وزادت عليهم الأمراض المعدية كالتيفوس والحمى والحصبة والإسهال وإلتهابات الجهاز التنفسي والسعال الديكي والعديد من الطفيليات المعوية وكذلك الإنفلونزا والجدري فمات جراء ذلك حوالي مليون مواطن وهاجر مليون معظمهم للولايات المتحدة الأمريكية والباقي لانجلترا و اسكتلندا و استراليا وكندا , فخسرت أيرلندا حوالي ربع سكانها و أصبحت فقيرة في الأيدي العاملة , في وقت كان الأيرلنديون فيه من رعايا أغني امبراطورية على وجه الأرض , ولم يرحم البريطانيون الأيرلنديون بل طالبوهم بالضرائب ولم يجدوا المساعدة إلا من الأيرلنديين من جنود وموظفي شركة الهند الشرقية , ومن البابا بيوس التاسع ، ثم اضطرت الملكة فيكتوريا للتبرع وجمعت التبرعات من البريطانيين في انجلترا واستراليا وأمريكا , وايضا تبرعت الدولة العثمانية بثلاث سفن محملة بالغذاء فمنعتهم بريطانيا ألا أنها تمكنت من الرسو وتوزيع المعونة وارسل وجهاء ايرلندا رسالة شكر للسلطان العثماني لذلك , حتى سكان أمريكا الأصليين ممن تعاملوا مع الأيرلنديين ارسلوا بمبلغ من المال للمساعدة .

وكان معظم الايرلنديون يعيشون أبشع حال فقد نالوا الأسوأ من الطعام والغطاء والمسكن , و كان معظم رجال ايرلندا يموتون جوعا وهم يشاركون في اصلاح وتعبيد طرق لا يحتاجون إليها تربط أملاك البريطانيين على الأرض الأيرلندية من ضياع وقصور لايزورونها سوى مرة أو مرتين كل عام , و مما لاشك فيه أن تلك المجاعة لم تكن سبباً في تدهور حال الأيرلنديين بقدر ماكانت نتاجاً لسياسة البريطانيين الاقتصادية التي وضعوها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر في ايرلندا وأدت إلى تدهور حالتهم الاقتصادية طوال عقود طويلة قبل المجاعة الكبرى .

ومثلما تلاعبت بريطانيا بالسياسة الاقتصادية لأيرلندا , تلاعبت بالخريطة الاقتصادية ايضا فبينما كانت الثورة الصناعية في أوجها على الجزيرة البريطانية الكبرى الغنية بالفحم و الحديد , كانت ايرلندا جزيرة فقيرة التربة الزراعية تعاني من سوء الصرف ذات مناخ رطب ممطر معظم العام , فكانت جزيرة رعوية معزولة إلى حد كبير عن التقدم الانجليزي . ولكن تلك العزلة لم تكن تامة فالأجزاء الشمالية من ايرلندا وتحديدا منطقة “أليستر” وفد إليها عناصر بريطانية بروتستانتية تتحدث الانجليزية ذات خبرة صناعية , وكلما زاد النمو الصناعي فيها زاد وفود الانجليز إليها , وارتبطت “أليستر ” بالجزيرة الكبرى وأهملت باقي جزيرة أيرلندا ,فزاد شعور السخط فيها وطالب الأيرلنديون بالحكم الذاتي .

فقام كفاح مسلح طويل ضد بريطانيا لذلك , فأصدر البرلمان البريطاني عام “1914”م    قراراً بمنح الحكم الذاتي لإيرلندا الجنوبية , إلا أن ذلك لم ينفذ إلا عام “1921”م حيث منح الجزء الجنوبي الاستقلال , وتركت أليستر في الشمال تابعة لبريطانيا , وذلك لم يرض الوطنيين الايرلنديين , وظل هذا الحلم في ذهن الايرلنديين حتى عام “1937”م حينما نجح الحزب الجمهوري في الوصول للحكم و أعلن الاستقلال واطلق علي ايرلندا اسم” Eire” وذلك بلغتهم القديمة , ووضع دستوراً جديداً وطالب بضم “أليستر” , واتجه للتصنيع وتحسين أحوال الزراعة وتنشيط التجارة الخارجية , وكان الانشقاق الأكبر عن بريطانيا حينما أعلن قائد التحرير “دي فاليرا ” أن ايرلندا لاتتقيد بسياسة بريطانيا وتعلن حيادها التام أمام الحرب العالمية الثانية , وقد سمحت ايرلندا للغواصات الألمانية بالرسو في موانيها للتموين , نكاية في بريطانيا والولايات المتحدة التي كانتا تضغطان عليها لجرها للحرب وكان نتيجة ذلك وقف اشتراك ايرلندا للانضمام للأمم المتحدة لعدة سنوات حتى تخطت ايرلندا كل هذا ثم انضمت للسوق الاوروية المشتركة وعضواً في الاتحاد الأوروبي وسبقت بريطانيا في ذلك .

أما الجزء الشمالي أو “أليستر” فكان هو الآخر يقاوم بكل قوته للوجود البريطاني مضحياً بدماء شعبه ليحقق الاستقلال فقامت جماعات مسلحة منها منظمة شبه عسكرية هي الجيش الجمهوري الأيرلندي لتقودالكفاح المسلح منذ العقد الثاني من القرن العشرين بقيادة “مايكل كولينز” بعمليات فدائية واغتيالات وتفجيرات لمواقع بريطانية , ففاوضتهم بريطانيا وأعطت للجزيرة استقلالها وانفردت بحكم أليستر , فقامت حرباً أهلية أيرلندية لذلك “1922- 1923” م , ضد “كولينز” الذي وافق على المعاهدة وبين “دي فاليرا” الرافض لها , وكان النصر حليف “كولينز” , فتغير موقف  دي فاليرا الذي كان عادى الجيش الجمهوري الأيرلندي رسمياً بعد أن امسك بزمام الأمور في ايرلندا المستقلة , واتخذ ضده اجراءات صارمة منها الحجز دون محاكمة بسبب تفجيرات ضد بريطانيا , بل والاعدام والسجن عندما سعى الجيش الجمهوري بطلب المساعدة من هتلر ضد بريطانيا , فأصبح الجيش الجمهوري بين شقي رحي , بين مستعمر وبين أخوة أعداء , لم يجد الدعم منهم , بل كبلوه وضيقوا الخناق عليه , فاكتفت ايرلندا بتكوين جمهورية مستقلة في الجزء الجنوبي , واستمر الجيش الجمهوري بالتفجيرات في بريطانيا من حين لآخر خلال سنوات طويلة , حتى جاء عام “1997”م حيث تم الاتفاق بين “جيري آدمز” القيادي من الجيش الجمهوري ورئيس وزراء بريطانيا “توني بلير ” وكان ذلك أول لقاء بين رئيس وزراء بريطاني وقيادي من الجيش الجمهوري منذ لقاء 1921 بين “مايكل كولينز” ورئيس الوزراء البريطاني “دافيد لويد جورج” , وتمت اتفاقية بلفاست وأهم بنودها مجلس حكم مستقل ومنتخب في أيرلندا الشمالية إضافة إلى تقاسم السلطة واستفتاء على توحيد أيرلندا والذي جرى في “1999” م وكانت النسبة “71”% نعم في ايرلندا الشمالية و”94″% نعم في جمهورية أيرلندا المستقلة. ولكن حتى الآن لم ينته الوضع بسلام فهو أشبه بالنار تحت الرماد فالجيش الجمهوري الأيرلندي لم ينته بل ظهر في السنوات الأخيرة منظمة أطلقت على نفسها الجيش الجمهوري الأيرلندي الجديد وقامت بريطانيا أكثر من مرة بإيقاف مجلس الحكم في ايرلندا الشمالية  بحجة الخوف من انشقاقه .

شاهد أيضاً

“المستشار بين دور البناء ومعول الهدم”

  سمير السعد من المؤكد أن وجود المستشارين يُعدّ ضرورة حتمية في منظومة اتخاذ القرار …