النبلاء

بقلم د/ شيرين العدوي

عادة ما تظهر في كل المجتمعات طبقة عليا تسمي بالطبقة الأرستقراطية وتكون محط أنظار الطبقات الأخرى في النسيج المجتمعي؛ حيث يتعلم منها الجميع فن التعامل الراقي وتكون سببا في حراك طبقي و تحاول الطبقة الوسطي التطلع لها مما يؤدي إلى تطلع الطبقة الدنيا إلى الطبقة الوسطي وهكذا تتبدل الأدوار وتتداول الأيام بين الناس. إنها سنة الله في خلقه.
قامت طبقة النبلاء بدوركبير في روسيا في القرن التاسع عشر الميلادي . تألفت تلك الطبقة من جماعة محدودة للغاية أقرب للعشيرة منها للطبقة ومن عدد صغير من أحفاد النبلاء الروس والأكرانيين وهم سلالة وجهاء القبائل التترية التي انضمت إلى روسيا، إضافة إلى أبناء بارونات أقاليم البلطيق، والأمراء البولنديين والكونتات. كل هؤلاء تربوا بطريقة واحدة وجمعتهم تقريبا قرابة بشكل أو بآخر بالأرستقراطية الأوروبية. وقد كانوا ينظمون الحفلات الفاخرة لوجهاء المجتمع ويضيفون الجلال والمهابة على البلاط الروسي. و كان لتلك الطبقة تأثير ضعيف على الحياة السياسية حيث أصبحوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يمثلون طبقة “النبلاء بالوراثة” . تلك الطبقة في روسيا لا تشبه طبقة النبلاء في بولندا وليتوانيا التى كانت تحمل طابعا عسكريا. و تحولت جماعة النبلاء الروسية مع الوقت إلى اتحاد زراعي لملاك الأراضي؛ إذ يتحد الملاك الزراعيون في كل إقليم ويختارون رئيسا يهتم بشئونهم يسمى “برئيس النبلاء”. ويعتبر هذا المنصب منصبا شرفيا. وقد قام الإمبراطور بعد ذلك بترقية من يشغل هذا المنصب إلي رتبة “ياور” حيث يمنحه هذا اللقب في احتفال يضم جميع العاملين في البلاط. و كان لهذا المنصب وقتها مزايا عديدة فلم يخضع لسلطة أي هيئة أو وزير، ويمكنه دائما أن يطلب مقابلة الإمبراطور لكي يناقش شئون النبلاء في محافظته. وكان القياصرة الروس يدعمون بشدة هذه الاتحادات حتى إنهم أنفسهم كانوا يسعون للانضمام إلى تلك الطبقة من “النبلاء بالوراثة”؛ بل كان الإمبراطور يوافق ويرحب بدعوات النبلاء على الإفطار والغداء وشرب الشاي؛ فيذهب بصحبة عائلته ويحاول آنذاك أن ينسى أنه إمبراطور، ويتصرف باعتباره نبيلا من النبلاء. وقد سجل النبلاء الروس الأرستقراط أسماءهم في سجلات “أنساب النبلاء”، وراحوا يتطلعون لشرف انتخابهم لمنصب “رئيس النبلاء”. وفي أوقات الانتخابات يأخذون الأمير في عربة تجرها “خيول سوداء” ثم ينتخبون نبيلا من أصول غير معروفة لكنه يلقى احتراما كبيرا فتصبح له نفس الحقوق التي يحظى بها ممثلو أكبر العائلات عراقة. وبمرور الوقت أصبحت هذه الاتحادات غنية وبعد تحرر الفلاحين الروس أفلس غالبية المُّلاك مما اضطرهم لبيع أراضيهم . ولم تتخل “اتحادات النبلاء” عن مساعدة تلك العائلات المفلسة فخصصوا معاشات للأرامل ومنحا للأطفال حتى يستطيعوا دفع مصروفات تعليمهم؛ فحافظوا على طبقة كادت تندثر وأسهمت في تثقيف روسيا بالثقافة الأوروبية التي ارتبطت بها. وسرعان ما تميزت تلك الطبقة بسبب تعليمها وانفتاحها على أوروبا بالنزعة الوطنية، فأصبحت مؤثرة وقوية وذات سلطة واسعة. لقد انتمى إلى تلك الطبقة مجموعة من الكتاب الروس الذين أثروا الأدب العالمي مثل الشاعر بوشكين(1799-1837 ) والروائي الشهير ديستوفسكي -الذي مازلنا نقدم جزءا من حياته وما حولها من خلال سيرته الذاتية المترجمة- والروائي تورجينيف (1818- 1883). إن المتأمل لتلك الطبقة في روسيا يجد أنها بكتابها لم تؤثر في روسيا فقط وإنما انتقلت بحديثها عن الفقراء من خلال أعمالها الإبداعية إلى كل أنحاء العالم . ودعونا نتساءل :هل يحتاج المبدعون إلى أصل نبيل ليدعمهم أم أنهم نبلاء بفكرهم وإبداعهم ؟!

شاهد أيضاً

“مذكرتا اعتقال بحق نتنياهو وغالانت .. بين الرمزية والاختبار الجاد للإرادة الدولية”

  سمير السعد في خطوة تعد سابقة في سياق الصراع الفلسطيني العربي الإسلامي _ الصهيوني …