بقلم – ريم أبوعيد
هذا الموضوع ربما يكون شائكا بعض الشيء وقد أصبح يمثل هاجسًا حقيقيا عند الكثيرين من الكتاب في الآونة الأخيرة، والذي لم يعد يقدم النصوص الأدبية المطروحة في الساحة الثقافية بصورتها الحقيقية سواء كانت جيدة بالفعل أم رديئة وركيكة. وبصفتي كاتبة في المقام الأول، أجد من الصعوبة بمكان أن أضع نفسي في مصاف النقاد، أو أن أكون خصمًا وحكمًا في نفس الوقت. لذا سأقدم أطروحتي من منظور عام تمامًا بعيدًا عن التطرق إلى أسماء أو عناوين بعينها، وسأكتفي بتسليط الضوء على المشهد الثقافي العام بما له وما عليه.
فالحديث عن النقد بوجه عام والنقد الأدبي على وجه التحديد ليس بالأمر اليسير خاصة في الوقت الراهن. فعلى مر العصور تباينت أسسه ونظرياته، واختلف النقاد أنفسهم حولها، فالنقد ليس عملية حسابية في النهاية لأنه كما يخضع لتلك الأسس والنظريات، يخضع أيضًا لثقافة الناقد وذائقته الأدبية. ومن وجهة نظري الشخصية هو موضوع شائك، خاصة وأنه في بعض الحالات يخضع أيضًا للأهواء الشخصية للناقد نفسه، الأمر الذي يفقد العملية النقدية برمتها مصداقيتها وحياديتها. وبالرغم من أن النقد الانطباعي كان هو السائد والمعترف به أيضًا في عصور سابقة، بل كان هو المعيار الوحيد للحكم على النص، إلا أنه لم يعد معتبرًا في الوقت الراهن كونه لا يعتمد على معايير دقيقة وموضوعية في تقييم النص، فالانطباعات الشخصية للناقد قد تتطرق إلى تقييم الكاتب نفسه لا نصه فحسب، وهو ما يجعل الأمور تخرج عن نصابها الصحيح في تناول النص وتقييمه تقييمًا موضوعيًا. ويعرف النقد كتعبير اصطلاحي بمفهومه الحديث بأنه تقييم للنص الأدبي وتقويمه كذلك في الوقت ذاته إذا لزم الأمر، أي بيان نقاط ضعفه أيضًا وليس ما به من جماليات ونقاط قوة وحسب.
إن الحكم على النص الأدبي يستلزم أن يكون الناقد على دراية تامة أولًا بقواعد كتابة النص، كما يجب أن يكون ملمًا أيضًا بقواعد اللغة المكتوب بها النص، حتى يتسنى له الوقوف على مواطن الجمال به، وتمييز مواطن قصوره وضعفه بصورة صحيحة، لا تبالغ في إعلاء قيمته أو بخسه حقه، ويجب أيضًا أن تكون لديه القدرة على التحليل والتفسير لتقديم النص للقارىء بمعانيه الصحيحة دون الإخلال به أو تغيير جوهره. إذن النقد الأدبي في مجمله ليس بالمسألة السهلة، وليس كل عارف بقواعده يمكن ممارسته بشكل صحيح وبحيادية تامة. كما أنه ليست كل النصوص المطروحة في المشهد الثقافي الآن ترتقي لأن تصبح موضوعًا للدراسة أو التقييم، لأنها تفتقر إلى عناصر النص الأدبي في الأساس. فالحديث عن النقد كنظرية أو فرع من فروع العلوم الإنسانية أصبح مستهلكًا ومعادًا، لما به من تكرار للتعريفات والاصطلاحات التي صاغها السابقون في هذا المجال. فمن السهل نقل ما قالوه في تلك المسألة، الأمر الذي لن يضيف جديدًا ولن يعد رأيًا شخصيًا في الموضوع برمته. لذا سأتخطى التطرق في الحديث باستفاضة عن الجانب النظري في مسألة النقد الأدبي، ليس تقليلًا من شأنها بالطبع ولكن لعدم الحاجة إلى تكرار الحديث عنها، وسأنتقل إلى الحديث عن واقعنا الثقافي الحالي وما آل إليه حال ثقافتنا المعاصرة.
ومن المؤسف، القول بأن المشهد الثقافي الراهن أصبح عبثيًا، وأن المستوى الثقافي العام في المجتمع بات مترديًا، وذلك نتيجة لعوامل عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، أن كثير مما يتم طرحه بالمكتبات من كتب وتحديدًا الأعمال الأدبية لا يرتقي إلى أن يصنف أدبًا بأي حال من الأحوال، بالإضافة إلى ما أصبحنا نراه ونعايشه من مجاملات من بعض النقاد لهذه النصوص وأصحابها على حساب الأدب والمجتمع بأكمله الذي يعمل أولئك وهؤلاء على تسطيح ثقافته وتشويهها. ففي مناخ عام كهذا تسوده الشللية والمصالح والمجاملات لا يمكن أن نعول كثيرًا على النقد كوسيلة من وسائل تقييم النصوص الأدبية بمختلف ألوانها. فهذه العوامل قد ترتفع بنص تافه إلى عنان السماء، وقد تهبط بعمل جيد إلى الأرض السابعة، فحين تطغى الأهواء الشخصية على التقييم الصادق لا نحظى في النهاية بنقد موضوعي أو بناء. فالعلة لم تعد تكمن في ما إذا كان نظريات النقد الحالية صالحة للتطبيق في الوقت الراهن أم لا، بقدر ما أصبحت تكمن في بعض النقاد وبعض الكتاب أيضًا. فلا أولئك يمتلكون الأدوات السليمة التي تمكنهم من كتابة نص جيد أو على الأقل يرتقي إلى مصاف النصوص الأدبية بمفهومها العام، ولا هؤلاء يمتلكون مقومات النقد الموضوعية التي تتيح للقارىء الوقوف على مميزات وعيوب النصوص المطروحة في المكتبات، كما لا تساعد الكاتب نفسه على الارتقاء بكتاباته المستقبلية وتقديم الأفضل للقارىء.
هذه المشكلات التي تواجه الساحة الأدبية والثقافية في الوقت الراهن تضع المسألة النقدية برمتها في أزمة حقيقية، كما أنها أيضًا تفقدها مصداقيتها وموضوعيتها، فما بني على باطل يكون هو نفسه باطلًا. وهذا هو واقع حالنا الثقافي الآن بلا مواربة، واقع مليء بالأباطيل للأسف الشديد. فما بين أباطيل المحتوى، وأباطيل الأسلوب، وأباطيل الدراسات النقدية التي تمتدح في محتوى هش، تتراجع الثقافة العامة تراجعًا ملحوظًا، وتنعدم الذائقة الأدبية المعتبرة لدى القارىء والناقد على حد سواء.
بعض الأمثلة الاستدلالية
التمييز العنصري والطائفي في المشهد الثقافي الراهن
وهو ما انتشر بكثافة في الآونة الأخيرة حتى أنه بات يشكل تهديدًا حقيقيًا لكل القيم والمعاني الإنسانية في المجتمع. هذا التمييز يندرج تحت مسميات عدة، على سبيل المثال لا الحصر، الأدب النسائي، والأدب الإسلامي. فالأدب في رأيي هو حالة جمالية متكاملة، وهو القدرة على خلق هذا الجمال وتعزيز معناه في نفوس المتلقين. وهو رسالة أيضًا مفادها الارتقاء بالوعي الجمعي والثقافة المجتمعية على حد سواء. فإن لم يترك الأدب أي تأثير إيجابي في ذهن القارىء فهو يفتقد إلى عنصر أساسي من عناصره. إذن فليس كل ما يكتب في الوقت الراهن ويطرح على الساحة يمكن اعتباره أدبًا من الأصل. فالكثير من النصوص وللأسف الشديد أصبحت تفتقر إلى كل المقومات التي تجعل منها في النهاية نصًا أدبيًا يمكن أن يندرج تحت أي تصنيف من التصنيفات. وبالطبع لا يمكن تعميم هذا القول على جميع العناوين المطروحة على الساحة الآن، فلا يزال هناك نصوصًا جيدة، بل ومتميزة أيضًا. ولكن في كلتا الحالتين سواء كان النص لا يحمل بين طياته أي من العناصر التي تجعله يرتقي إلى مصاف النص الأدبي، أو كان متميزًا، فلست مع تمييزه عنصريًا بأي حال من الأحوال ولا تصنيفه على أساس جنس كاتبه أو ديانته، فالأدب إن لم يخاطب الإنسان في العموم افتقر إلى أهم مقومات رسالته السامية وبات يشكل انتهاكًا لحق من حقوق الإنسان في المجتمع ألا وهو المساواة بين جميع أفراده. ويجب أن ننتبه لخطورة انتشار وترسيخ مثل هذه الاصطلاحات المقحمة على الثقافة والأدب حتى لا تؤدي بنا في نهاية الأمر إلى الانشقاق المجتمعي والصراعات الطائفية.
الأنماط الأدبية المستهلكة والتقليد الأعمى
من يتفحص الساحة الثقافية الآن بعين ثاقبة وواعية، لا يخفى عليه هشاشة المضمون في الكثير من العناوين المطروحة في المكتبات، بل وتكراره أيضًا في بعض الحالات إن لم يكن غالبيتها. فكثرة العناوين لم تعد تثري الحراك الثقافي كما كان من المفترض لها أن تفعل، ولكنها أصبحت تمثل شكلًا من أشكال الضحالة الفكرية لدى الكثير من الأقلام الموجودة على الساحة الآن. فلم يعد تميز الفكرة هو ما يشغل بال هؤلاء الكتاب بقدر استهداف تواجد مطبوعاتهم على أرفف المكتبات حتى وإن كانت بلا قيمة حقيقة، إلى الحد الذي دفع الكثيرون منهم إلى تقليد بعضهم البعض فيما يتعلق بالموضوعات التي يطرحونها، وأسلوب تناولهم لها كذلك. وهو ما أصبح يمثل عبئًا حقيقيًا على القارىء، الذي لم يعد بإمكانه العثور بسهولة على مضمون جيد، يوفر له قدرًا من المتعة الفكرية، ويثري حصيلته اللغوية في الوقت ذاته. فمشكلة هذه الأعمال المستهلكة لا يكمن فقط في كونها مكررة وتشبه الأثمال البالية، ولكن أيضًا في عدم تمكن الكثيرون من كتابها من أدوات اللغة السليمة، فيخرج العمل في صورته النهائية بشكل أشبه بثرثرة مزعجة، ليس لها علاقة من قريب أو بعيد بالأعمال الأدبية. فلا موضوع حقيقي، ولا حبكة متقنة، ولا سرد مترابط البنية، ولا لغة سليمة. وقد ساعدت بعض دور النشر في تفشي هذه الظاهرة التي تسيء للمشهد الثقافي برمته، بعد أن أصبح النشر عملية تجارية بحتة لتلك الدور، والتي تتقاضى من الكاتب مبالغ طائلة نظير نشر كتابه أو مؤلفه، دون النظر إلى مضمونه أو محتواه، ودون تقييم حقيقي ما إذا كان ما يقدمه هذا الكاتب أو ذاك يستحق النشر أم لا. وبالطبع لا أعني بكلامي منع النشر أو فرض الوصاية على أي كاتب، ولكن أعني ضرورة التقييم الصحيح للعمل الأدبي من قبل دار النشر المنوطة بنشره، ومراجعته وتصويبه إن لزم الأمر، ووضع بعض الشروط التي تضمن تكامل عناصره الأدبية حتى يخرج للنور في صورة جيدة، تثري المشهد الثقافي وتقدم أطروحات لائقة للقارىء، ترتقي بالذائقة الثقافية العامة.
ومن هذه الأنماط المستهلكة على سبيل المثال لا الحصر ما يسمى بــ (أدب الرعب)، الذي انتشر بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة، وإن كان ليس بلون أدبي حديث، فهو موجود في الأعمال الأدبية منذ عصور قديمة، ولكنه لم يكن منتشرًا ومستهلكًا إلى هذا الحد الذي هو عليه الآن. فقد كان فيما مضى يعني بالفكرة والمضمون والرسالة أيضًا أو الهدف من ورائها، أما الآن فأصبح بابًا خلفيًا لاقتحام أي شخص مجال الكتابة الروائية أو القصصية، حتى وأن كان لا يجيد الكتابة نفسها ولا يمتلك من أدواتها إلا النذر اليسير جدًا، بل تعدى الأمر إلى نشر الخرافات والدجل والشعوذة من خلال هذه الأعمال، وهو الأمر الذي يشكل خطورة حقيقية على الثقافة الجمعية والوعي المجتمعي، فبدلًا من أن نرسخ القيم الجمالية والروحانية التي تسمو بالفكر الإنساني بوجه عام وترتقي بالنفس البشرية، أصبحنا نرزخ تحت وطأة أقلام لا هم لها إلا تحقيق الانتشار على حساب قيمة ما تقدمه لجمهور القراء، وهو ما أثر تأثيرًا سلبيًا بالفعل على المجتمع وعلى الحراك الثقافي الحقيقى به. ولا أشير بأصابع هذا الاتهام بالطبع إلى كل كتاب هذه اللون الأدبي، ولكني لا أعفي الكثيرين منهم من المسؤولية أيضًا. فالكاتب إن لم يقدم جديدًا أو مفيدًا فحري به ألا يكتب. فالكتابة ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لإيصال فكرة ما، أو تعزيز قيمة ما. فما القيمة الحقيقية التي تعززها هذه الروايات أو القصص التي تنتمي إلى هذا اللون الأدبي، خاصة وإن كانت تفتقر أيضًا إلى كل مقومات وعناصر النص الأدبي من لغة وسرد وحبكة وصياغة. فالإمساك بالقلم وخط أي كلمات بلا معنى لا يصنع كاتبًا، كما لا يصنع أيضًا عملًا روائيًا حقيقيًا، حتى وإن لاقت مثل هذه الأعمال رواجًا بين بعض الفئات، فلن يحقق كاتبها في النهاية أية نجاحات حقيقية على الساحة الثقافية.
استخدام اللهجة العامية في العمل الروائي
من الأمور اللافتة للنظر في بعض الروايات الموجودة حاليًا على أرفف المكتبات، هو كتابة النص بأكمله باللهجة العامية، التي قد تصل إلى حد الفجاجة والركاكة في بعض الأحايين، ولا أدري هل هو استسهال من الكاتب في هكذا حالات؟ أم أنه عدم إلمام باللغة العربية وقواعدها ومفرداتها. قد يكون مقبولًا استخدام اللهجة العامية أو المحلية في بعض الجمل الحوارية في الرواية أو القصة، ربما لإظهار سمات الشخصية التي يضع الكاتب على لسانها تلك الجمل، ولكن ليس من المستساغ على الإطلاق أن يكون العمل الروائي بأكمله مكتوبًا باللهجة العامية، لأنه في هذه الحالة يفتقر إلى عنصر هام ورئيس من عناصر نجاح العمل الأدبي، ألا وهو اللغة، الأمر الذي يقلل من قيمة العمل في مجمله بل يجعله لا يرتقي إلى تصنيفه عملًا أدبيًا من الأساس.
خلاصة القول
ما طرحته في هذه الأطروحة ليس سوى بعض النماذج فقط، التي أصبحت تشكل الصورة العامة في المشهد الثقافي الراهن، والتي باتت تسيء إلى الكيان الثقافي بأكمله، وتعمل على تسطيح ثقافة المجتمع وتغييب وعيه. وما نحتاج إليه حتى نخرج من هذه الدائرة المفرغة التي بتنا ندور فيها، هو كاتب مثقف بحق لا مدعي ثقافة، يمتلك من الفكر ما يجعله قادرًا على الخلق والابداع والابتكار، ويمتلك من ناصية اللغة ما يمكنه من التعبير عن أفكاره ببراعة دون ملل أو رتابة أو تكرار. كما إلى ناقد يقظ الضمير يحكم على العمل الأدبي بمصداقية وحيادية، يمتلك من أدوات النقد ما يجعله مؤهلًا لهذه المهمة الشائكة والشاقة، دون مجاملة لكاتب أو انتقاص من قدر آخر، ولديه من الوعي والإدراك ما يجعله يفرق بين النقد البناء بهدف التقويم والتصويب وبين الانتقاد والنقض الهدام القاصف للأقلام، حتى يبين لكاتبه ولقارئه معًا، نقاط القوة ونقاط الضعف في النص الأدبي، مما يساعد الكاتب على الارتقاء بكتاباته، ويأخذ بيد القارىء نحو الفهم الجيد للنص ويجعله قادرًا على التمييز ما بين الغث والثمين من النصوص الأدبية الكثيرة التي تعج بها الساحة الثقافية الآن.