بقلم: سمير السعد
في السنوات الأخيرة، شهدت البرامج السياسية والرياضية تحولًا ملحوظًا من منصات حوارية تهدف لتنوير الرأي العام إلى ساحات أشبه بحلبات المصارعة. بدلاً من إدارة الحوارات بحيادية ومهنية، أصبح العديد من مقدمي البرامج يسعون لجذب الانتباه عبر التهريج، التنكيل بالضيوف، وافتعال الأزمات، وهو ما يطرح تساؤلات حول دور الإعلام اليوم وأخلاقياته.
الدور الأساسي لأي مقدم برنامج هو إدارة الحوار، وطرح الأسئلة بموضوعية، وتوفير مساحة لكل ضيف للتعبير عن رأيه. لكن ما نشهده حاليًا من انحياز بعض المقدمين لأجندات معينة، أو تعمد استفزاز الضيوف وخلق أجواء مشحونة، يشير إلى ابتعاد الإعلام عن رسالته الأساسية. هناك من تحولوا إلى أدوات لخدمة سياسات القناة، متجاهلين القيم المهنية والأخلاقية التي تحتم على الإعلامي أن يكون محايدًا وملتزمًا بالمصداقية.
ما يثير الاستغراب هو الثراء الفاحش الذي ظهر على بعض مقدمي البرامج، حيث يتنقلون بين شقق فاخرة وسيارات فارهة، ويروج عنهم ترددهم على صالات القمار والروليت بشكل علني. كيف يمكن لمقدم برنامج أن يحقق هذه الثروات في ظل واقع اقتصادي متأزم؟ وهل يتم تمويل هؤلاء لخدمة أجندات سياسية أو لتنفيذ مهام إعلامية تتسم بالتسقيط والابتزاز؟
الأزمة الأكبر تكمن في تحول الخطاب الإعلامي من أداة توعية وتثقيف إلى وسيلة لبث الكراهية والطائفية. بعض البرامج اليوم تعمل على تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، مما يهدد السلم الأهلي ويثير الفوضى.
هنا يبرز الدور الوطني والأخلاقي لهيئة الإعلام والاتصال في مواجهة هذا الانحدار. من واجب الهيئة أن تضع ضوابط صارمة لمراقبة أداء الإعلاميين، وتفعيل قوانين تحاسب من يتورط في الخطاب التحريضي أو الانحياز الفاضح. كما يجب فتح تحقيقات شفافة حول مصادر ثروات بعض الإعلاميين ومقدمي البرامج، ومحاسبة كل من يثبت تورطه في الفساد أو التلاعب بالرأي العام.
الإعلام هو ركيزة أساسية لبناء المجتمع، وما يحدث اليوم يمثل تهديدًا لهذه الركيزة. لا يمكن السكوت عن تحوله إلى أداة للهدم بدلاً من البناء. على الدولة ومؤسساتها المعنية، وعلى المجتمع كذلك، أن يطالبوا بإعلام نزيه ومحترف يلتزم بالمعايير المهنية والأخلاقية.
إن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق الهيئات الرقابية، بل هي مسؤولية مشتركة تبدأ من المقدمين أنفسهم، مرورًا بالقنوات، وانتهاءً بالمشاهدين، الذين يجب أن يرفضوا هذا النوع من البرامج ويطالبوا بمحتوى يليق بتطلعاتهم وآمالهم.
لا يمكن للإعلام أن يؤدي رسالته الحقيقية إلا إذا عاد إلى جذوره المهنية والأخلاقية، متحررًا من الضغوط السياسية أو المصالح التجارية. الإعلام الحر هو الذي يعكس تنوع الآراء، يحترم القيم الإنسانية، ويسعى إلى تعزيز الوحدة الوطنية بدلاً من تأجيج الصراعات.
ولتحقيق ذلك، لا بد من التركيز على تأهيل وتدريب الإعلاميين و يجب أن تخضع المؤسسات الإعلامية لبرامج تدريب صارمة لمقدمي البرامج لضمان التزامهم بالمعايير المهنية، مع تعزيز مفهوم الحيادية والنزاهة.
كذلك وضع و إصدار مدونات سلوك تضعها هيئة الإعلام والاتصال لضبط العمل الإعلامي، تشمل معايير واضحة للمحتوى وطريقة إدارة الحوارات.
مع مراجعة مصادر التمويل و فتح تحقيقات شفافة حول مصادر دخل مقدمي البرامج، والتأكد من عدم وجود علاقات مشبوهة تربطهم بأجندات سياسية أو جهات خارجية. التأكيد على محاربة خطاب الكراهية ، و تشديد العقوبات على البرامج التي تبث خطابًا طائفيًا أو تحريضيًا، مع فرض غرامات مالية كبيرة وإغلاق البرامج المخالفة عند الضرورة.
وتعزيز الرقابة المجتمعية والتأكيد على دور المشاهدين لا يقل أهمية؛ إذ يجب أن يتعلم الجمهور رفض ومقاطعة البرامج التي لا تحترم عقولهم أو تساهم في تعميق الانقسامات.
“خلاصة القول ” الإعلام سلاح ذو حدين؛ إما أن يكون وسيلة لنهضة المجتمع أو أداة لتدميره. ما نشهده اليوم من تهريج وتهافت بعض مقدمي البرامج لتحقيق الشهرة والثراء يهدد هذا القطاع الحيوي ويضعف ثقة الجمهور به.
المطلوب الآن وقفة جادة من الدولة، المؤسسات الإعلامية، والجمهور على حد سواء لإعادة الاعتبار للإعلام كوسيلة تثقيف وبناء وطني. فالسكوت عن هذه الظواهر لا يعني فقط استمرارها، بل تفاقمها لتصبح خطرًا يصعب تداركه في المستقبل. الإعلام ليس تجارة، بل رسالة، ومن يفرط فيها لا يستحق شرف الانتماء إلى هذا الميدان.