بقلم د – ليلي الهمامي
كتب الثعالبي مطلع القرن العشرين كتاب تونس الشهيدة في سياق مواجهة فكرية مع الاستعمار الفرنسي بشراكة مع احمد السقا. اليوم يمكننا القول إن تونس شهيدة : البراهمي، بلعيد، نڨض، وقافلة من شهداء المؤسسة الامنية والعسكرية والمدنيين تعيش واقع الافلاس والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، حيث تتذيل تونس مراتب التقدم والتنمية والسعاة في العالم بعد ان كانت في مواقع متقدمة من حيث نسب النمو ومناخ الاعمال والاستقرار المحفز على الاستثمار الحقيقي المباشر وإنشاء المؤسسات. أكيد، في تونس-النظام السابق لم نكن في حالة مثالية، فالاستبداد والفساد حرما تونس من نقاط هامة في مستوى النمو، وكان المفروض ان تقودنا الديمقراطية الجديدة الى قفزة نوعية في مستوى مقاييس التنمية والنمو. وهذا لم يقع، بل إننا نقف على مشارف الهاوية.
الدولة التونسية اليوم عاجزة على صرف الاجور، دولة تقترض من الداخل والخارج وآخر الارقام تفيد بأننا تجاوزنا خلال الثلاثية الرابعة لسنة 2020، 8% من نسبة النمو السلبي في تونس وان البطالة تجاوزت نسبة 17،5% وهي مرشحة لمجاوزة عتبة 20% خلال سنة 2021. المعطيات الاحصائية، تفيد اليوم بأن المواطن التونسي فقد أكثر من 40% من مقدرته الشرائية خلال العشرية الاخيرة. وعندما أذكر هذه الارقام لست أحن للنظام السابق وليس كما تسوق له قناة فرانس 24 الفرنسية بأن ذكر الارقام الحقيقية هو تعبير عن نوستالجيا للنظام السابق. كمختصة في الاقتصاد، لا تعنيني رسائل الاعلام الموجّه في ابتزازه للوعي العام. يعني وفق قناة فرانس 24 والاعلام الشبيه إما أن نقبل بالانهيار والافلاس وإما أن نُتّهمَ بأننا نحنّ للنظام السابق. وهذا معنى المغالطة والابتزاز للرأي العام من أجل تجميل الكارثة وتقديمها على أنها قدرٌ. كسياسية واقتصادية أحمّل المسؤولية، كامل المسؤولية للنظام السابق والطبقة السياسية الجديدة التي حلّت بالبلاد بعد 14 جانفي 2011 وتعاملت مع الدولة على أنها غنيمة.أكيد أن النظام السابق فشل في تحقيق التنمية العادلة بين الطبقات والجهات، أكيد أنه انزلق إلى الاستبداد والفساد، لكنه مع ذلك وعلى الرغم من ذلك نجح في ضمان التوازنات ال »ماكروإقتصادية « وفي تحقيق حالة من الاستقرار والرفاه الاجتماعي النسبي التي كان في الامكان استثمارها والبناء عليها بعد 14 جانفي. لكن الطبقة السياسية التي تمّ زرعها من قبل قوى أجنبية وبقرار خارجي، لم تكن حاملة لمشروع بل لأجندة تفكيك الدولة وتفليسها ووضعها رهينة المؤسسات المالية العالمية والشركات الكبرى: هذا ما حصل على أرض الواقع والارقام لا تكذب.
أعلم جيِّدًا كسياسية أن البعض يحتج بأن ما تحقق لتونس بعد 14 جانفي 2011 هو مناخ الحرية وضمان الحقوق، وهنا أجيب بأن تلك الحرية المزعومة هي حرية أقلية من المحظوظين الذين تم انتقاؤهم من عواصم أجنبية لملء المنابر الاعلامية ولأداء أدوار سياسية تُوهم بحصول طفرة ديمقراطية في تونس. آسفة، ليست الديمقراطية ثرثرة على بعض المنابر الاعلامية والامر لا يختلف عن موضوع حقوق الانسان، حيث أن منظمات حقوق الانسان في تونس تتحرك بصفة انتقائية كانت منذ العهد السابق إلى اليوم مجمّدة لحماية بعض الاشخاص وتتعاطى مع ملف الحقوق والحريات على قاعدة الفرز وفق الهوية السياسية ووفق الرهانات والمقاصد الخاصة بجهات معينة وهذا تأكيد آخر على أن ما تحياه تونس اليوم هو فقط ديمقراطية زائفة.
أكّدت ونبّهت في أكثر من مناسبة أن الفقير والجائع والمريض والمهمّش في تونس غير معني بثرثرة النخب المحظوظة وأن الديمقراطية في غياب العدالة الاجتماعية والتنمية لا تعني شيئًا. لذلك وجب النظر على سبيل المقارنة بما يحصل في محيطنا العربي حيث تؤكد التجربة المغربية من جهة والمصرية من جهة أخرى حالات نجاح في إرساء دعائم نُظُم ديمقراطية متينة من خلال تحقيق نجاحات اقتصادية استثنائية. فمصر نجحت في ظرف وجيز في مجاوزة خطر الفوضى ووضع حد لمحاولات الالحاق بمدارات قرار إقليمية ودولية وتمكنت من أن تكون وِجهة مفضلة للاستثمار الخارجي تنافس اقتصاديات الصين والهند. فحالة الاستقرار ووضوح الرؤية والمخططات التي ترجمتها المشاريع الضخمة كانت العنوان البارز في الساحة الاقتصادية الدولية لتحوُّل مصر إلى حاضنة للمال والاعمال. وليس أدلّ على ذلك من أن مصر تعدّ اليوم البلد الوحيد من بلدان جنوب المتوسط الذي يحقق نسبة نمو حقيقي إيجابي قُدِّرت ب 0،5% على الراغم من جائحة كوفيد (*). وما يؤد وضوح الرؤية في قيادة الاقتصاد المصري، أن مصر خططت لما بعد كوفيد برصد ما يعادل ال 5،4 مليار أورو لدعم القطاعات المتضررة من جائحة الكوفيد ومن ضمنها السياحة التي تمثل 12% من الناتج المحلي الداخلي. وضوح الرؤى والاستقرار في مصر عناصر حيوية لكسب ثقة المستثمر الداخلي والخارجي وهو أمر لا يمكن أن يتوفر في أوضاع الفوضى التي تعصف بعديد الدول العربية ومن ضمنها تونس. نجاح مصر في العودة بسرعة كقوة إقليمية مكنها من ضمان مصالحها الاستراتيجية وإيقاف الطموحات التركية في شرق المتوسط ومن ضمان حدودها الغربية في علاقة بالوضع الليبي. إذ تحولت مصر إلى طرف أساسي في المعادلة الليبية ونجحت من خلال المسار التفاوضي الذي أرسى حكومة الوفاق الوطني الثانية من إخراج القوى الاجنبية من مجال الصراع ووضع المسار ضمن السياق السياسي ليعيد للشعب الليبي سلطة القرار. هذا في غياب الدور المؤثر لتونس وعطالة ديبلوماسيّتها التي لازمت الترقب السلبي واللامبالاة، في ظل فوضى صراعات النفوذ الداخلي. والخلاصة الواجب تثبيتها أن المنطقة العربية تشهد اليوم ثنائية من الضروري الوقوف عندها وتفكيك مفرداتها وهي
1) الاستقرار والبناء من أجل إرساء ديمقراطية اجتماعية تحمل مشروع ديمقراطية سياسية حقيقية (مصر، المغرب، الكويت)
2) ديمقراطية زائفة تقف على خراب اقتصادي واجتماعي يؤول حتما إلى انهيار الدولة والسيادة الوطنية (تونس، ليبيا، اليمن، سوريا، العراق)
(*) حسب البنك الاوروبي للتنمية BIRDمجلة L’économiste Maghrébinتاريخ 19 جوان 2020.