بقلم د. ليلى الهمامي
ينحدر التصنيف الائتماني لتونس بصفة مطّردة بمرور الزمن، تصنيف يؤكد أن الوضع الاقتصادي لتونس سيّء جدا وأن صورة تونس في الخارج جد سلبية منفّرة للمستثمرين وغير مانحة للثقة في الاسواق العالمية. يتفق هذا الوضع زمنيا مع صعود الاقتصاد المغربي والمصري وانفراج الازمة الليبية؛ معطيات لا يمكن اهمالها لتحديد موقع تونس من المستجدات الاقليمية والدولية في علاقة برهانات ما بعد كوفيد.
ومهما يك من أمر فإن تونس تمثل اليوم ما يمكن وصفه بالكهل المريض في المنطقة، وضع تترجمه محصّلة تقرير مؤسسة مودي لللتحليلات المالية والائتمانية، بأن الازمة في تونس سياسية اقتصادية وهي خلاصة معبرة عن فشل مزدوج سياسي واقتصادي، ترجمته حالة الإحتراب داخل الدولة بين اشخاص ومؤسسات تتنازع النفوذ من اجل حكم فقد كل نفوذ داخل المجتمع. فدستور 2014 الذي وُصِفَ بكونه أفضل الدساتير، أكّدت التجربة أنه متناقض، تلفيقي، حيث أنه يجمع عناصر من طبيعة مختلفة، اكثرها بديهية الفصل الاول “الدولة مدنية ودينها الاسلام”، ثم إن الرئيس منتخب بالاقتراع العام الحر والمباشر، بصلاحيات محدودة، مقابل رئيس حكومة غير المنتخب، يستمدّ شرعيته من الاحزاب الاغلبية في البرلمان، يتوفر على أوسع صلاحيات سلطة تنفيذية.
وأكّدت التجربة أنه في غياب المحكمة الدستورية وحتى في وجودها، يمكن لرئيس الجمهورية أن يوسّع مجال نفوذه من خلال مجلس الأمن القومي الذي يرأَسُهُ والذي يشمل تقريبا كل المجالات تحت مصطلح الأمن القومي غير المحدد في نص الدستور بل إن مجلس الأمن القومي يمنح رئيس الجمهورية إمكانية حماية الدولة من أعدائها في الداخل والخارج !!!
وبالفعل، فلقد كشفت أزمة أداء اليمين عن فراغات دستورية يسعى الرئيس التونسي إلى استثمارها في مواجهته مع حركة النهضة، فراغات مكّنته من تعطيل عمل المؤسسات ومن “قلب الطاولة” على المؤسسة البرلمانية (مجلس نواب الشعب).
حيث فعّل الفصل 72 الذي ينص على أن رئيس الجمهورية يسهر على احترام الدستور، وفي غياب المحكمة الدستورية، أصبح رئيس الجمهورية الطرف الوحيد المؤهل لتأويل الدستور. وبناء عليه جعل قيس سعيّد من تنظيم موكب أداء اليمين من الوزراء الذين منحهم البرلمان ثقتهم عملية غير شكلية ولا تندرج ضمن الواجبات المقيِّدة لرئيس الجمهورية.
لقد أكدت تجربة 10 سنوات أن النظام البرلماني لا يتناسب مع ثقافة التونسي ولا مع تراثه ولا مع مزاجه. فأمام خوف النخب السياسية من تغوّل حركة النهضة في الجهاز التنفيذي من خلال قاعدتها البرلمانية، انتقلنا إلى حالة انحراف رئاسوي يمارسه الرئيس قيس سعيد مستغلا في ذلك عدم الانسجام بين مكونات المشهد البرلماني بل والتناقضات التي انفجرت صلب حركة النهضة. فتمكُّنُ الرئيس قيس سعيّد من المبادرة كان نتيجة مباشرة لإسقاط راشد الغنوشي بالوكالة لحبيب الجملي مرشح النهضة لرئاسة الحكومة بعد انتخابات 2019. والصراعات صلب حركة النهضة وأزمة خلافة راشد الغنوشي مكنت سعيّد من فرصة ذهبية لكسب مناطق نفوذ داخل نظام صنعته النهضة وكانت له بالفعل جولة أولى بتكليف إلياس الفخفاخ برئاسة الحكومة. وعلى الرغم من سقوط ورقة الفخفاخ المتورط في قضيّة فساد وتضارب مصالح، فإن سعيّد يستعيد زمام المبادرة بجعل الفخفاخ يقدم استقالته إلى الرئيس وباغلاق الباب امام النهضة وبالتالي عدم منحها هي وحلفائها فرصة تقديم لائحة لوم تمكنها من العودة لاقتراح رئيس حكومة، حدث هذا بليل دون دليل كتابي مؤرخ بدقة على تقديم الفخفاخ لاستقالته قبل محاولة النهضة بنفس اليوم تقديم لائحة اللوم المعنيّة.
حالة الارتباك وعدم الاستقرار والتنازع دفعت بالبلاد إلى وضع شلل داخل مختلف القطاعات؛ صلب الادارة وفي قطاع الفسفاط والبترول وعلى الرغم من محاولة استعادة زمام المبادرة من رئيس الحكومة هشام المشيشي فإن درجة التفكك والفوضى بلغت مستويات قياسية.
ولعل أهمّ مظهر من مظاهر الازمة والتناقض صلب الدولة التونسية، من جهة، اعتراض رئيس الجمهورية على أيّ تدخل خارجي يمكن ان يتعلق بالشأن الداخلي اعتراض عبّر عنه خلال رئاسته لاجتماع مجلس الامن القومي فُهِمَ على أنه موقف حازم غير قابل للتنازل، لكنه، من جهة اخرى، سرعان ما انهار خلال لقاءه بسفراء الاتحاد الاروبي يوم 23/02/2021 بقصر قرطاج حيث طرح رئيس الجمهورية بوضوح مسألة الازمة الداخلية السياسية/الدستورية التي تعبرها البلاد والتي تباعد بينه شخصيا ورئيس الحكومة : مفارقة غريبة لرئيس يدّعي التصدي لأيّ تدخّل خارجي.
فكيف يمكن الاعتراض على التدخل الخارجي في الشأن الوطني ورئيس الجمهورية يقحم وبصفة إرادية سفراء أجانب في شأن داخلي؛ أمرٌ غير مفهوم وغير قابل للتأويل إلا بتفعيل مفهوم التناقض وعدم الانسجام مع الذات.
ويتضح من خلال التحرك الاخير للدبلوماسية الغربية داخل تونس أن فرنسا تراهن على قيس سعيّد للحد من نفوذ حركة النهضة في الدولة، نفوذ يرتبط استراتيجيا بتركيا مقابل مواصلة الادارة الديمقراطية الامريكية مع بايدن نهج المراهنة على الاسلام السياسي في المنطقة كضامن للاستقرار ولو نسبيّ يمكّن الولايات الامريكية من مواصلة مخططها للإطاحة بالأنظمة الشمولية في العالم العربي. في هذا السياق يتنزّل لقاء السفير الامريكي مع رئيس البرلمان ورئيس الحكومة هشام المشيشي يوميْ 23 و 24 فيفري 2021؛ كأنّ الرسالة واضحة من واشنطن إلى العواصم الاروبية بأن البرنامج لا يزال جاريًا وأن كل إزاحة للاسلام السياسي مرفوض. (أكيد أن الديمقراطية التي تنشدها الشعوب العربية لا علاقة لها بهذا المشهد العبثي الذي يطبع الساحة السياسية التونسية).
هذا يُؤكّد اختراق المحاور المتصارعة اقليميا ودوليا للساحة التونسية ويُثبِتُ مَقولةَ أن “تونس مخبَرٌ للربيع العربي” وأن تطوُّرَ الصراع السياسي من شأنه أن ينعكس على عموم المنطقة، بما في ذلك الوضع الجزائري الذي لا يزال على الرغم من استقراره غير واضح الأفق تماما كما أن الليبي لا يزال هش وعرضة للانهيار في كل لحظة.