بقلم – خالد جعفر
تأخذنى قدماى دائماً إلى ماترغبه نفسى . وكأنها معتادة أن تحدد خطوط سيرى ، وتعرف ما أحب ، وأنا أيضاً أترك لها حرية الاختيار ، واثق فى تقديرها لما تستشعر به نفسى ، ويتوافق مع حالتى المزاجية ، واستسلمت لها كعادتى ، أجوب فى ثقافة الطرقات والشوارع ليلاً .
ليست الثقافة فقط فى كتاب تقرأه أو صفحات تطويها ، فالنظر فى عيون الناس ثقافة ، والبسمة فى الوجوه ثقافة ، رؤيتك لأنماط الناس ثقافة ، والتأمل فى المبانى القديمة ثقافة .. النيل أقدم قصة عرفها التاريخ ، النظر فيه ثقافة .. كل شىء تراه وأنت تسير وراءه ألف قصة وحكاية .
وهنا أشفقت على قدماى وقررت الاكتفاء بثقافة الحركة والسير إلى نوع آخر من ثقافة الثبات والسكون .. ومع أنى لست من هواة جلسات المقاهى ، إلا أننى استسلمت وجلست .
فى أقصى المقهى المزدحم . عيونى ترقب الوجوه ، الأيادي ، الضحكات ، عناق النظرات والقلوب المرتجفة فى برد الليل تستدفىء بالدخان المتصاعد من مصادر متعددة ، وأصوات الرياح أشباح أغنية حزينة في هذا الجو الصامت سوي من أنغام صوت أم كلثوم برائعة عبد الوهاب ( أنت عمري ) . أخذت أقلب في وجوه الناس وأقرأ فيها قصصاً وحكايات منها مايحمل هما ، ومنها من يسعد بلحظة حب جديد ، كل في عالمه الخاص يعيش ، حتى ماسح الأحذية يطرق بفرشاه على صندوقه القديم أملا في استجلاب الانتباه و بائعة المناديل تنادي بصوتها المتهدج في هذا البرد الشديد حتى تستدفئ بثمن كيس من المناديل .
نبهتنى قدماى أنه حان وقت الحركة ، وكأنها كانت تشعر أن هناك قصة يجب ألا تفوتنى وأنا أختم يومى .. أشرت إلي النادل فأعطيت له حسابه وخرجت وكانت عقارب الساعة ثقيلة وكأنها تجمدت حركتها من شدة البرد وأشارت عقاربها إلى الصمت . فإذا بعد خطوات توقفت لحظات كانت بعمر السنين لأرى درويشا أعمى يستند إلى حائط يبتهل وكأن هناك خيطا بينه وبين السماء ، لا أدري إن كان يناجي السماء أم أن السماء توحي له ، يهز جذع الليل ، فيتساقط نور الله ليتصدق به على أيدى التائهين .