دراهم ودنانير

بقلم – مروة الحمامصى

من يقرأ القرآن ويدقق في معانيه وصوره , يجده ينقل لنا بصورة غير مباشرة أحوال البشر في نواحي حياتهم العديدة , ومنها آيات كريمة ذكرت فيها العملات النقدية , وذكرت بأسمائها باللفظ , فذكر الدرهم في الآية الكريمة 75 من سورة ” يوسف ” في قوله تعالى ” وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ” . وذكر الدينار في الآية الكريمة 20 من سورة ” آل عمران ” في قوله تعالى ” وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ” . وسواء تناول القرآن الكريم أحوال الأمم السابقة أو المعاصرة لنزول الوحي فكان ينقل صورة قريبة لذهن أول مجتمع تلقى الوحي , أو مجتمع الجزيرة العربية ذلك المجتمع القبلي البدوي الذي لم يعرف الحكومة المركزية , ولم ير من التقدم سوى مامر عليه من التجار الغرباء أو ما رأوه ولمسوه خارج حدودهم عندما خرجوا للتجارة ويذكر لنا التاريخ أن “بنو عبد مناف ” قد عقدوا معاهدة مع الامبراطورية البيزنطية ,و “بنو عبد شمس” مع الامبراطورية الفارسية , وعقد “بنو عبد المطلب ” معاهدة مع اليمن , و ” بنو عبد نوفل ” مع الحبشة , والتجارة أوذلك النشاط الحيوي التي كانت شريان الحياة لهم كان لزاماً له العملة المتمة لصفقاته , فلجأوا للاعتماد والتعامل مع العملات الدولية المعروفة في ذلك الوقت , وكانت جارتهم الجنوبية “سبأ” قد عرفت العملات المعدنية وقد عثر على عملة فضية سبئية ترجع للقرن الثالث أو القرن الثاني قبل الميلاد عليها وجه العملة المعبودة اليونانية “أثينا ”

وقد تدلى من أذنها قرط وعلى خدها حرف النون السبئي , وظهر العملة عليها بومة وهلال وغصن زيتون به ورقتان وسطهما حبة زيتون وأول حرفين من أثينا بالخط اليوناني , فاًذا كانت العملة اليونانية دولية في ذلك الوقت كانت تسك في العديد من البلاد دون اضافة , فإن سبأ قد أضافت بصمتها الخاصة لتؤكد كيانها الاقتصادي ويرجح أن حرف النون السبئي هو أول حرف من اسم ملكها “نشا كرب ” , الذي حكم حوالي 250 ق.م , أوملك آخر هو “نصرم ” الذي حكم تقريباً عام 200قبل الميلاد , وقد اكتشف أيضا عملة سبئية برونزية يظهر عليها صورة رجل وخلفه قرص الشمس وعلامة شخصية وعلى الوجه الآخر نفس الرجل ومنقوش “كرب إلي وتر ” ويشير ذلك للملك السبئي “كرب إلي وتر ” الذي حكم حوالي 160قبل الميلاد , وظهر التطور في أن العملة أصبحت تمثل الملك السبئي وتكتب اسمه بلغتهم الخاصة ووضعت كذلك صورة المعبودة المحلية الشمس “ذات حمم ” بدلا أثينا الأجنبية . وكذلك كان للأنباط في الشمال دولة مستقلة في الشمال الغربي للجزيرة العربية حيث عثر في بترا أو “البتراء” العاصمة على عملة برونزية عليها صورة القيصر “ترايانوس ” تراجان واسمه منقوش باليونانية ممايعني أن العملة كانت في الفترة مابين 98-117ميلادية حيث كانت مملكة الأنباط تحت الحكم الروماني , أما الوجه الآخر نقش عليه باليونانية “بترا” وصورة المعبودة “اللات – مناتو ” معبودة المدينة .

وكما رأينا بالأدلة أن عرب شبه الجزيرة العربية كان متاحاً لهم استخدام العملات الدولية وكذلك عملات الممالك العربية على أطراف شبه الجزيرة , وقد وظل الحال كذلك حتى ظهور الاسلام وظهور دولة مدنية أسسها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عاصمتها المدينة . والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما اهتم بالدعوة للدين الاسلامي , اهتم بأحوال الرعية في الحياة الدنيا , وبطبيعة الحال كانت تلك الدولة الوليدة , لاتملك الامكانات لسك عملة خاصة بها , فلجأت لتداول العملات الدولية الموجودة وقتها , ولم يجد غضاضة في ذلك فالرسول صلى الله عليه سلم عندما زوج ابنته فاطمة رضي الله عنها من علي بن أبي طالب كان مهرها 480 درهماً كسروياً من الفضة , منقوش عليها صورة معبد النار “آتش كاه ” , كما كانت الدنانير البيزنطية الذهبية صاحبة صورة الصليب , عملة معترف بها في دولة الرسول صلى الله عليه وسلم , وكذلك كانت العملات اليمنية الحميرية ,

وتوفي الرسول صلى الله عليه وسلم , عام 11 هجرية , فتولى أبو بكر الصديق الخلافة وانشغل بحروب الردة , التي كادت أن تقضي على دولة المسلمين في شبه الجزيرة , فلم تقر سكة جديدة خاصة بالدولة الاسلامية , وظلت العملة البيزنطية هي المتداولة , حتى توفي عام 13 هجرية , وتولى بعده عمربن الخطاب والذي بدأت في عهده الفتوحات الاسلامية تأخذ شكلا أكثر توسعاً , بعد أن كانت في البداية صدامات على الحدود مثل غزوة مؤته عام 8 هجرية , وتم في عهده فتح الشام ومصر والعراق وفارس , فبقيت العملة الفارسية والبيزنطية كماهي معترف بها , مع إضافة نقوش اسلامية ,مثل : “الحمد لله ” , ” محمد رسول الله ” , كما ضربت عملات كان ينقش عليها اسماء المدن بالعربية واليونانية فكان عليها اسماء المدن التي كانت من قبل تحت الاحتلال البيزنطي ولا تزال اللغة ليونانية مستخدمة فيها , مثل : دمشق , وحمص , وطبرية , و بعلبك , وإيليا , ,قنسرين . كما زيدت عليها كلمات تشير لوزنها الصحيح , فالعملة البرونزية التي سكت في دمشق أضيف عليها كلمة “جايز ” , أما التي سكت في حمص فأضيف عليها كلمة “واف ” أو “طيب” . وكان للدرهم الفارسي قيمة مختلفة من مكان لآخر , ولتوحيد ذلك أقر قيمة واحدة له في كل أنحاء الدولة الاسلامية .

وفي خلافة عثمان بن عفان “23هجرية – 35 هجرية ” زيد على الدراهم عبارة “الله أكبر ” . وفي عهد أول خلفاء الدولة الأموية معاوية بن أبي سفيان , طرأت تحولات جديدة على الدولة الاسلامية في كل النواحي ومنها العملة فعثر على دنانير بيزنطية من عهد معاوية بن أبي سفيان عليها صورته متقلداً سيفه متشبهاً بالأباطرة البيزنطيين , , وبعد وفاة يزيد بن معاوية , أعلن عبد الله بن الزبير عن خلافة جديدة مقرها مكة المكرمة وبايعه كل المسلمين ماعدا بعض المناطق في الشام ,وقد وصلت إلينا معلومات من المقريزي أن “عبد الله بن الزبير” ضرب دراهم منقوش على وجهها “محمد رسول الله ” وعلى ظهرها “أمر الله بالوفاء والعدل ” وضرب أخوه مصعب في العراق دراهم فارسية سنة 70 هجرية , مكتوب على أحد الوجهين “بركة الله ” والآخر “اسم الله ” . ولم تصمد دولة عبد الله بن الزبير وكذلك دولة قطري بن الفجاءة الذي اراد هو الأخر تأسيس خلافة بعد وفاة ابني الزبير وسك لنفسه عملة وقد استعاد بنو أمية منه الخلافة , فحدث التطور الأهم في العملة وذلك في عهد الخليفة “عبد الملك بن مروان ” “65 هجرية – 86هجرية ” وهو سك عملة عربية اسلامية خالصة , في اجراء اقتصادي يتوازن مع التعديلات الادارية التي اجراها بتعريب الدواوين , لتدخل الدولة الاسلامية مرحلة جديدة . وفي بداية حكم عبد الملك بن مروان كانت الدنانير الاسلامية على غرار الدنانير البيزنطية مع بتر أعلى الصليب وظهر حرف ” T ” محاطاً بعبارات التوحيد بالخط الكوفي .

والوجه الآخر كانت صور هرقل وابنيه قنسطنين وهرقليانوس . وعموداً قائماً على المدرج الذي يحمل الصليب . ثم ظهر ديناراُ جديداُ أثار عاصفة من الاعتراضات , حيث حمل صورة عبد الملك بن مروان , وعلى الوجه الآخر عمودأ قائماً على أربع مدرجات بدلا من الصليب وعلى الحافة عبارة “بسم الله ضرب هذا الدينار سنة ست وسبعين ” , فاعترض البيزنطيون بشدة على ذلك واعتبروه خروجاً على نظام النقد البيزنطي العالمي, أما داخل الدولة الاسلامية فقد اعترض جماعة من الصحابة لتشبه الخليفة بالأباطرة , كما أن الصور ينهى عنها الشرع . وبرغم ذلك كانت تلك مجرد البداية فضرب عبد الملك بآراء الجميع عرض الحائط واصدر العملة الاسلامية الخالصة عام 77 هجرية , فكان ديناراً اسلامياً على أحد الوجوه في الوسط عبارة “لا إله إلا الله وحده لا شريك له ” وعلى الحافة “محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ” , والوجه الآخر في الوسط ” الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ” , وعلى الحافة “بسم الله ضرب هذا الدينار عام سبعة وسبعين ” . وبذلك خطت الدولة الاسلامية خطوة واسعة لأن تتبوأ عملتها مكانة مميزة في العملات العالمية ذات الثقل الاقتصادي العظيم لتتواكب مع الفتوحات والتوسعات ودرجات التقدم الكبيرة التي وصلت إليها دولة المسلمين في كل المجالات .

شاهد أيضاً

“سامي أبو سالم .. صوت غزة الذي لا يخبو تحت الحصار”

  سمير السعد في عالم الصحافة، حيث الكلمات قد تكون أقوى من السلاح، يقف الصحفي …