كشريف الشافعي يكتب
“متجوّزين واللا؟”.. معالجة مسرحية مشحونة بالقضايا الاجتماعية للكاتب والمخرج ناصرعبدالحفيظ
وسط إنشغالة حاليا ببروفات عرضه الجديد “سلطان زمانه ” من إنتاج فرقة المسرح المصري اعرب الفنان والكاتب الصحفي ناصرعبدالحفيظ عبر وسائل تواصلة الإجتماعي عن إمتنانه وتقديرة للدور الذي تلعبه الحركة النقدية في مصر والمنطقه العربية
معربا عن سعادته بتخطي تجربته الأخيرة ” متجوزين واللا …” الحدود الجغرافيه مشيرا إلي مقالة الكاتب الصحفي والناقد شريف الشافعي والتي أعاد نشرها (نقلًا عن مجلة “المسرح” الإماراتية)
حيث كتب قائلا :
ليست وحدها الفِرَق والجماعات المسرحية المنتسبة إلى مسارح الدولة المصرية هي المشغولة بتغليب الجانب الإجتماعي والقضايا المصيرية والملحّة في معالجاتها الفنية الحديثة. فعلى الدرب نفسه، تمضي تيارات متباينة تنتمي إلى المسرح الخاص والحر والمستقل والجامعي، وذلك على اعتبار أن الفن لا يمكن أن يدور في فضاء أجوف عندما يكون المجتمع مليئًا بالمشكلات المعقّدة، وأن الأعمال والكتابات العالمية حتى إذا أريد تقديمها محليًّا في مثل هذه الظروف، فمن الضروري “تمصيرها” وإعادة صياغتها روحًا وموضوعًا وثيمة، وتعزيزها بحمولات واقعية راهنة تمسّ اهتمامات أفراد الشعب في حياتهم الطبيعية اليومية.
وانطلاقًا من هذا الوعي بالدور الوظيفي للمسرح، الذي لا ينتقص بطبيعة الحال من الجماليات والفنيات المجردة بوصفها أولوية مسرحية مسلّمًا بها، تأتي مسرحية “متجوّزين واللا؟” لفرقة “المسرح المصري” الخاصة على مسرح صاحبة الجلالة قلعة الحريات “نقابة الصحفيين” في القاهرة (ربيع 2023). وقد أعدّها وأخرجها ناصر عبد الحفيظ مؤسس الفرقة، استنادًا إلى الكتاب الشهير الذي حقق أعلى المبيعات في العالم “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة” للطبيب النفسي الأميركي د. جون جراي. ويشترك في العرض، إلى جانب عبد الحفيظ الذي يمثّل أيضًا، مجموعة كبيرة من الفنانين عشاق المسرح أبوالفنو
تقاطعات هامشية
إلى جانب التقاطع المشار إليه مع كتاب جون جراي، فقد توحي مسرحية “متجوّزين واللا؟” (التي يعني عنوانها: متزوجون أم غير متزوّجين؟) بتقاطع آخر مع مسرحية “المتزوجون” الكوميدية للمؤلف فيصل ندا والمخرج حسن عبد السلام في أواخر السبعينيات، التي تناقش بدورها القضايا الاجتماعية والاقتصادية من خلال العلاقات الزوجية بأسلوب ساخر، وتعد من كلاسيكيات المسرح الخاص الضاحك في مصر، ولطالما تُستعاد على الشاشات، خصوصًا في عيد الفطر، الذي شهد عرضها التليفزيوني الأول بعد رواجها المسرحي.
والحقيقة أن سائر تقاطعات مسرحية “متجوّزين واللا؟” مع الأعمال الأخرى تبدو هامشية، غير محورية، وغير مؤثرة على مسارها الدرامي وتكنيكها ومنظومة أبجدياتها الخاصة. فمسرحية “المتزوجون” مثلًا تنطلق في الأساس من فكرة الفوارق الطبقية كسبب جوهري للخلافات الزوجية، وتقدم عددًا محدودًا من الحالات، التي تنشأ بينها الخلافات الأسرية لأسباب مادية.
في حين تقدّم مسرحية “متجوّزين واللا؟” من خلال الكوميديا الاستعراضية عشرات النماذج (الثنائيات) التي يوضّح كل نموذج منها في مشهد قصير مستقل حالة شقاق حادّ بين زوجين، يكادان ينسيان من شدة المشكلات بينهما إن كانا لا يزالان متزوجين أم غير متزوجين. وعندما يتصارحان، ويستعرض كل منهما ما يسعده وما يغضبه من الطرف الآخر، تتفتح من جديد زهرة الحب بينهما، ويتراجعان عن هاجس الطلاق الذي بدأ يسيطر عليهما، وهنا يعود الزواج جادًّا وحقيقيًّا، ويذوب جبل الجليد بحضور دفء المودة والألفة والتسامح.
وتمضي مسرحية “متجوّزين واللا؟”، عبر مشاهدها الثنائية المتتالية في تشريح قضايا المجتمع المصري من واقع خصوصية تفاصيل الخلافات الزوجية وكواليسها داخل البيوت. وهي خلافات تعود إلى أسباب متنوعة تتضح واحدًا تلو الآخر في كل مشهد، ومنها: القسوة، اللامبالاة، الأنانية، البخل، المادية، اختلاف الميول والطباع، الرغبة في التسيّد، الابتزاز، التدلل الزائد، عدم القدرة على تحمّل المتاعب والصعاب، عدم فهم حقيقة المساواة بين الرجل والمرأة، إلى آخر هذه المنغّصات التي تقود في النهاية إلى تفاقم ظاهرة التفكك الأسري وزيادة معدل الطلاق في المجتمع المصري، الأمر الذي ينعكس بدوره على الأبناء ويدفعهم إلى العزلة والانطواء، وربما إلى الإدمان أو التطرف أو الانحراف عن الطريق القويم. ومن خلال طرح هذه الهموم الأسرية، يشار كذلك إلى أزمات عامة أخرى تخص المجتمع ككل، مثل البطالة، والفساد، والمحسوبية، والتواكل، وغيرها.
وهكذا، فإن مسرحية “متجوّزين واللا؟” لم تتقاطع في بنائها وتوجهاتها أيضًا بشكل كبير مع كتاب “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة”، رغم الإشارة إليه في أفيش العرض، ورغم وجود ممثل هو الفنان معتز السويفي يعلب دور مؤلف الكتاب الطبيب النفسي الأميركي جون جراي، ويقدم بعض الوصفات والنصائح لضمان السعادة الأسرية. وقد جاء التقاطع المسرحي مع الكتاب ومؤلفه ثانويًّا، لرغبة صنّاع العرض في جلب رجال المريخ ونساء الزهرة إلى كوكب الأرض المصرية، للغوص في تربة الموروث والعادات والتقاليد، ومناقشة قضايا مجتمعية محلية متجذرة، وتفاصيل حياتية وبيئية تخص الشعب المصري على نحو خاص في معاناته ومكابداته اليومية المستمرة.
أما الكتاب الأميركي، الذي يقدم بدوره تحليلات نفسية وحلولًا وافية للكثير من الخلافات والأزمات المتفاقمة بين الرجل والمرأة (في المجتمعات الغربية)، فإنه ينطلق من فكرة فانتازية، هي تخيّل أن الرجال هم سكان المريخ، وأن النساء هنّ ساكنات الزهرة. ومن خلال المناظير، اكتشف أهل المريخ نساء الزهرة، اللاتي حرّكن مشاعرهم، فوجدوا رغبة قوية في الذهاب إليهن، واخترعوا لذلك مركبات الفضاء. وعند وصولهم إلى الزهرة، استقبلتهم النساء بالترحاب، وعمّت بينهم المحبة السحرية. وقرروا بعدها السفر جميعًا إلى الأرض، رجالًا ونساء، حيث أعادوا اكتشاف ذواتهم، وأدركوا أن طباعهم وسلوكياتهم وعاداتهم وحاجاتهم ومتطلباتهم مختلفة، مثلما أن منشأ كل جنس هو كوكب مختلف، ولكن لكي تستمر المحبة وتستمر الحياة السعيدة، فمن الضروري أن يتناسوا خلافاتهم، ويعملوا على تلاشيها.
التتابع والحركة
وعلى الرغم من عرض مسرحية “متجوّزين واللا؟” على مسرح يبدو نخبويًّا جادًّا (نقابة الصحفيين)، فإن الرهان الفني جاء منعقدًا على البساطة في الطرح والأداء التمثيلي من شباب الفنانين والملابس والديكور والإضاءة والموسيقى والغناء والاستعراضات، والمرح في تفجير المفارقات من خلال المواقف والتناقضات. ورغم فقر الإمكانات والتجهيزات والتقنيات إلى حد ما لأسباب تخص حجم التمويل، فإن المسرحية تعكس في مجملها محاولات مكثفة للتسلح بالسمات العصرية الحداثية، وخلخلة القوالب المدرسية الجامدة.
تنقسم “متجوّزين واللا؟” إلى أكثر من عشرين مشهدًا قصيرًا، لا يتجاوز المشهد الواحد أربع دقائق، كتعبير عن سرعة إيقاع الحياة. وهي مشاهد منفصلة، لا يجمعها سوى الخط الأساسي (الشجار الزوجي، وهل نحن حقًّا زوجان أم لا؟!). كما أنها ذات طابع عفوي يسمح بقدر من الارتجال من خلال العرض اليومي، فهي في الأصل حصيلة ورش عمل مشتركة بين الفنانين. والمثير أن هذه المشاهد الكثيرة السريعة لا تُعرض جميعها بالضرورة في ليلة واحدة، بمعنى أن أحد العروض قد يضم عشرة مشاهد مثلًا أو أكثر قليلًا، في حين يتضمن العرض في الليلة التالية عشرة مشاهد أخرى، في السياق ذاته، وهكذا. كما تسمح المشاهد أحيانًا بإشراك الجمهور في الحدث والتداخل مع تفاصيله وشخوصه في بعض الحالات، بما يزيد تفاعلية العرض، ويمنح الفنانين على المسرح رؤية لحظية لردود الأفعال.
وإلى جانب سرعة الإيقاع، على اعتبار أن المشاهد الطويلة البطيئة طاردة للجمهور، وإمعانًا في كسر الملل والرتابة، وإصرارًا على بث روح المرح والتفاؤل والطاقة الإيجابية لدى الجميع من أجل تجاوز أزمات المجتمع وضغوط الواقع وقتامته، فإن معظم المشاهد الثنائية الخفيفة هي حركية في طابعها، وكأنما هناك حلبة منصوبة للمناورات المحتدمة بين الزوجين. وهي مناورات استعراضية، موسيقية وغنائية وراقصة، إلى جانب وجود فواصل غنائية أخرى متنوعة بين المشاهد، تستعيد عادة طقوس الرومانسية من ستينيات القرن الماضي، لتُنبت ثمار العشق من جديد في صدري الزوجين المتشاحنين، فيعودا من حافة الانفصال والطلاق إلى جوهر التواصل العميق الحميم.
_____________
(*) (نُشر في مجلة “المسرح” الإماراتية، عدد يونيو 2023)