بقلم- مروة الحمامصي
الخلاف بين البشر يشكل أحد طبائع النفس , و الذي ربما قد يتنامى ليصل لصراع دموي لا ينتهي , وقد ينتهي الصراع بالصلح النهائي فيجعل ماسبق حدوثه مجرد ذكرى مؤلمة واجبة النسيان , وقد يكون الصلح فصلا من فصول انتقام , فيها أحد الطرفين يشتعل قلبه حقداً , يمد يده بالسلام بينما اليد الأخرى تخفي السلاح وراء الظهر .
و مؤكد حدث هذا في مناسبات كثيرة يصعب حصرها – بالطبع لم تسجلها المصادر التاريخية كلها – ومن مظاهر إكساب عملية الغدر تلك المصداقية أن تتم المصالحة في حفل ومأدبة ليكون الناس شهوداً على حسن النية , وليندس أعوان الغادر وسط الناس ويقوموا بمساعدته دون إثارة الشبهات . وأقدم عملية للغدر من الخصم وسط مأدبة صلح سجلها التاريخ . كانت جزءا من مراحل أسطورة مصر الشهيرة ” ايزيس و أزوريس ” الأسطورة التي سجلت في تاريخ مصر القديم على مدارمئات السنوات ربما من قبل التاريخ , فكان أول ظهور لها كصورة مكتملة في أول نصوص جنائزية في مصر في نصوص الأهرام في الأسرة الخامسة , ثم في الدولة الوسطي بنصوص التوابيت , وكتاب الموتى بالدولة الحديثة ثم في العصور المتأخرة بكتابات الرحالة الاغريق وحتى القرن الثاني بعد الميلاد بكتابات المؤرخ والفيلسوف اليوناني بلوتارخ , وعلى مدار تلك العصور حدثت اختلافات بسيطة في الروايات وبقيت أحداثها الاساسية كماهي فالصراع بين الأخوين ست إله الشر وأوزرويس ملك مصر من ضمن أحداثه قتل ست لأوزوريس وتمزيق جسده وتوزيعها على الأقاليم حتى لا يبعث مرة أخرى , فتطوف ايزيس زوجة أوزوريس البلاد هي وأختها نفتيس زوجة ست والتي لم تكن راضية عن أفعاله , لتجمعا اشلاء الجسد وكانتا على شكل حدءتين , وتبكي ايزيس و تحيي دموعها الجسد الميت , ثم تحمل من زوجها بحورس ملك مصر القادم وبطل الفصل الثاني من صراع الخير مع الشر , وبعد ذلك يخطط ست لقتله مرة أخرى بطريقة ناعمة و جو سلمي مرح , فيقيم مأدبة يحضرها أوزرويس الذي نسي غدر أخيه من قبل به , ويعلن ست عن منح صندوقاً هدية للشخص الذي يتناسب مقاسه معه , وكان قد أمر باعداد واحداً يتناسب مع حجم أوزوريس , فيقوم الضيوف ، واحدًا تلو الآخر، بالنوم في الصندوق ، لكن أحدًا لم يناسب مقاسه سوى أوزوريس. وعندما يرقد أوزوريس بداخله ، يضع ست ورجاله الغطاء على الصندوق ويحكموا غلقه ، ويلقوه بالنيل فيطفو الصندوق ، ويصل للبحر وتنتهي رحلته لمدينة جبيل حيث تنمو شجرة حوله ثم يأمر ملك جبيل بقطع الشجرة لعمل دعامة لقصره ، ويكون الصندوق بداخل الشجرة. وتصل ايزيس لجبيل و وتخرج الصندوق من الشجرة حتى تستعيد جسد زوجها. و تترك الشجرة في جبيل حيث تصبح موضعًا للعبادة هناك . ويصبح بذلك أوزوريس ضحية للمرة الثانية لأخيه نتيجة مأدبة صلح كاذبة .
وقصة أخرى للمآدب الدموية في العصر القديم لم يذكر تاريخها بالتحديد , ذكرها القرآن الكريم في قصة النبي يوسف عليه السلام , وكانت من مراحل رحلة يوسف الطويلة بعيدا عن أهله . فبعد أن رماه أخوته في البئر وهو صغير وادعوا أن الذئب أكله , والتقطته قافلة , باعوه لعزيز مصر الذي رباه , وعندما كبر حاولت إغوائه امرأة العزيز فأبى وأتى الله بالبرهان على صدقه وافتراءها عليه , فنقلت تلك الأخبار المشينة لأهل المدينة , وأصبحت حديث النساء , فقال عز وجل في سورة يوسف الآية 30 ” وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ” , فأصبحت في نظرهن تعيش في الضلال بعد أن ملكها حبه , ففقدت رشدها , فأوغل صدر امرأة العزيز , التي لم يحفظ لها مالها و حسبها كرامتها , وارادت الانتقام منهن , فدعتهن لقصرها و أعدت لهن مأدبة ومجلس يليق بمركزها وبضيوفها , وذلك في الآية الكريمة التالية من نفس السورة , حيث قال الله تعالى : ” فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ” , وبذلك تم لها الانتقام , فلما رأين جمال يوسف لم يشعرن بالسكين وهو يجرح أيديهن , ولم تكتف برؤية ماحدث بل تتشفى فيهن لتشعرهن بالندم والتأنيب النفسي وكذلك أرادت منهن أن يلتمسن لها العذر , كما وردت في الأية الكريمة التي تلتها :” قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ” .
ونقلة أخرى لتاريخنا الاسلامي , و حادث آخر لمأدبة صلح دموية غادرة , وكان ذلك في الأندلس وسميت بوقعة الحفرة عام 199 هجرية – 814 م , وكانت على عهد الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل , حيث أسس جده دولة اسلامية مستقلة في الأندلس بعيدا عن الخلافة الأم في بغداد , وقد شبه الحكم بالخليفة العباسي المنصور , في حزمه و قوته وشدة ذكاءه , حيث استطاع القضاء على العديد من الفتن و الثورات في عهده , فقد ثار أهل طليطلة عام 181هجرية – 797 م بل وبايعوا أحد المولدين ويدعى عبيدة بن حميد – المولدين هو جيل جديد نشأ في الاندلس من آباء مسلمين عرب و بربر و أمهات مسيحيات – فأرسل لهم جيشا بقيادة عمروس بن يوسف حاكم البيرة والذي فشل في القضاء عليهم , فأدرك الحكم أن القوة لن تنفع فلجأ للحيلة , و طبق مبدأ فرق تسد , فاتصل سرا ببني مخشي من أهل طليطلة ووعدهم بالعطايا , وتآمر معهم على قتل عبيدة بن حميد زعيم ثورة التمرد , فذهب كبارهم برأسه للقائد عمروس في البيرة ليرسلها للحكم , فأكرم وفادتهم وهو بعلم بوجود ثأر قديم بين بني مخشي وبين بربر مدينة البيرة , الذين وثبوا عليهم قتلوهم , فذهب برؤوسهم جميعا لمقر الحكم , وانتهى من كل الأطراف دون أن يرفع سلاحه على أحد .
فأعجب الحكم بعقلية عمروس في الخديعة فولاه طليطلة , وأرسل لأهل طليطلة يبشرهم أنه قد جاء بواحد من المولدين والياً عليهم يرعى أمورهم ولن يكرههم على أحد أو شيء لا يرتضونه , فاطمئن أهل طليطلة , خاصة أن عمروس أظهر كرهه لبني أمية و رغبته في الثورة عليهم , ثم شرع في بناء قلعة حصينة بحجة عدم مضايقة ومزاحمة جنده لأهل طليطلة , فلم يعارضوه على بناء الحصن في وسط المدينة , وعندما انتهى البناء أرسل للحكم يخبره بذلك , و الذي لجأ لخدعة جديدة حيث أرسل لحاكم الثغر الأعلى يأمره بأن يكتب إليه مستغيثاً من هجوم جيوش نصارى أسبانيا , فيصل الخبر للحكم فيجهز جيشا بقيادة ابنه عبد الرحمن بدون أن يثير أي شك لما ينويه , فينطلق شمالا حتى يصل طليطلة , وهنا يصله خطاب آخر بأن جيوش نصارى أسبانيا تفرقت وابتعدت عن الثغر الأعلى , فيستعد عبد الرحمن للعودة لقرطبة , فينصح عمروس بن يوسف وجهاء وزعماء المولدين , بالخروج والترحيب بعبد الرحمن بن الحكم , وفي نفس الوقت يرسل الحكم برسالة خفية لعمروس ليقنع زعماء المولدين , بأن يدخلوا بعبد الرحمن وجنوده للمدينة فيرى قوتهم و كثرتهم , فيقتنع أهل طليطلة فيدخلها عبد الرحمن وجنوده بعد أن أظهر تمنعا في البداية ثم قبل الدعوة , و يقيم بالقلعة التي أقامها عمروس وليمة عظيمة لزعماء الولدين , بحيث يدخلوا من باب ويخرجوا من آخر بحجة عدم التزاحم , وكانوا يدخلون فيذهب بهم لجهة معينة يقطعون رقابهم ويلقون بالجثث في حفرة كبيرة خصصت لذلك من قبل , وفي نفس الوقت كان قرع الطبول و صوت المزامير يعلو على استغاثة أي أحد منهم , وظل الحال هكذا حتى منتصف النهار عندما لاحظ أحد حكمائهم , أنه لم يقابل أحدا من باب الخروج , وأن البخار المتصاعد كان بخار الدم لا دخان الطهي , فهرع الباقين وفروا وقضي على ثورتهم , بعد أن أعطوا الأمان لعبد الرحمن بن حكم ولوالي طليطلة الذي كان واحدا منهم .
ويشهد العصر الحديث على مأدبة دموية حدثت في مصر في عهد محمد علي , ذلك الوالي الذي صعد لسدة الحكم عام 1805 م , بإرادة الشعب الذي لم يستطع تحمل ظلم و ضرائب ولاة الدولة العثمانية , فكان لذلك الوالي الجديد صدامات دموية مع المماليك حتى من قبل أن يتولى الحكم , ومثلما قبل السلطان العثماني وجوده هو والأرناؤوط أو الألبانيين , أظهر له محمد علي الولاء حتى يضمن تقوية جبهته الداخلية ثم مواجهته بعد ذلك , وكان له بالفعل ما أراد ففي 1807 م عام تمكن أهل رشيد من صد حملة فريزر الانجليزية , بعد أن فتح لهم حاكم الاسكندرية أمين أغا أبوابها , فتشجعت قوات محمد علي وهزمت الانجليز وطردتهم , وحالف الحظ مرة أخرى محمد علي , فقد توفي كلا من عثمان بك والألفي زعيمي المماليك واستمر الخلاف بين مماليك الزعيمين , و نفى من أوصله للحكم وهو الشيخ عمر مكرم الذي اتهمه بالفساد المالي لدمياط عام 1809م أما باقي المشايخ فتم استمالتهم بالعطايا والاستقطاعات , وقد طلب منه السلطان مصطفى الرابع عام 1807م , تنظيم حملة لمحاربة الوهابيين الذين سيطروا على الحجاز لإنهاك موارده و جنوده , فاعتبرها محمد علي فرصة جيدة ليشغل فيها جنوده عن اثارة الاضطرابات . و قرر قبل أن يذهب جنوده للقتال أن يقضي على أقوى خصومه في مصر ألا وهم المماليك , وكان قبل ذلك قد ضمن التأييد الشعبي لما سيفعله بأن ترك للمماليك جبابة الضرائب وهو يعلم أنهم أكثر خبرة منه في تلك الأمور وسيكونون في المواجهة مع المصريين بل وكان يعلن عدم رضاه عن أسلوبهم في جمع الضرائب ثم كانت الخطوة التالية بتدبير رفيقه عند مجيئه لمصر وصديقه “لاظوغلي “باشا وكان هذا أنسب وقت لها , فمماليك القاهرة كانت بينهم وبين مماليك الصعيد مراسلات مريبة كما أن خروج ابنه “أحمد طوسون” للحجاز قد يغري المماليك بالقيام بالثورة , فقام بتحضير حفل خروج للحملة ودعا فيه كبار رجال الدولة والعلماء والأعيان والأمراء المماليك والبكوات والكشاف وكان ذلك في أول مارس 1811م , وقد أوهم محمد على سادة المماليك بأن دعوتهم تشريف لموكب ابنه , و اطمئن له المماليك حيث جالسهم واحتسى معهم القهوة , حتى جاء موعد التحرك و الخروج من “باب العزب” في الجهة الغربية من القلعة فكان الترتيب أن يتقدم الموكب الفرسان بقيادة ” أوزون علي ” ثم والي الشرطة والآغا محافظ القاهرة والمحتسب , ثم الجنود الأرناؤوط بقيادة ” صالح آق قوش ” ثم كان دور المماليك يتقدمهم “سليمان بك البواب “يليهم دفعة ثانية من الجند الأرناؤوط وعندما اجتازت مقدمة الموكب البوابة وجاء دور المماليك في الخروج من باب العزب أقفل الباب من الخارج , وتسلق الجنود الأرناؤوط الصخور من الجانبين وانهالوا بالرصاص على المماليك الذين وقفوا في مصيدة ذلك الممر الصخري , ثم انهالوا علي البقية منهم بالذبح , وامتلأ الفناء بجثثهم , وسالت الدماء على الطريق المواجه للباب فسمي الطريق بالدرب الأحمر ثم قطعت رؤوسهم بأمر “كتخدا بك ” ووضعت رؤوس كبارهم على باب الجامع الحسين ليكونوا آية وعبرة على قوة الباشا الجديد و بطشه , ولم ينج من تلك المذبحة إلا “أمين بك” الذي قفز بجواده من على سور القلعة وكان في مؤخرة الصفوف ليهرب للشام , كما قام الجنود الأرناؤوط بمهاجمة بيوت المماليك ونهبها وقتل كل من يجدونه منهم , وظل الحال كذلك ثلاثة أيام حتى نزل محمد علي بنفسه للقاهرة ليوقف جنوده بعد أن قتل حوالي ألفاً من المماليك , و تكررت تلك المذبحة من ابراهيم باشا للمماليك الفارين للصعيد , في اسنا عام 1812م , وذلك بعد دعوة الفارين منهم للصلح واعادتهم لمناصبهم مقابل أن يعترفوا بحكم محمد علي , حيث كانوا قد لجأوا لزعماء العبابدة والبشارة فانطلت عليهم الخدعة , ثم بعدها فر من نجى منهم للسودان .