بقلم – أحمد ابراهيم
بوركتم بفضيل شهر كريم هلّ علينا مع آخر يوم من شهر أغسطس/ آب الذي رغم انتهاء أيامه، مازالت أحداثها اللصيقة بالمنطقة في أوجها، وعلى رأسها أولمبياد بكين 2008 الذي ودعته الصين الأحد الماضي بمكسب 51 ميدالية ذهبية لنفسها، مقابل ميداليتين للعرب جلبهما السبّاح التونسي أسامة الملولي، والعدّاء البحريني رشيد رمزي. نحن العرب لو كنا 200 مليون فميدالية واحدة لكل مائة مليون عربي، وإن بلغنا 300 مليون – كما نبالغ أحياناً – فعسى لنا من الكسور بعض القشور.
انتهت (الأولمبية/29)، وبعد 17 يوماً من الكفاح المتواصل في بكين، لكن وما إن زفّت موسيقا الختام، حتى عادت كوندوليزا رايس (الغيورة على المنطقة) تهرول إليها بما تبقى لواشنطن من ماء وجه، في جولة هي التاسعة بعد مؤتمر (أنابولس)، خوفاً من أن تسرق الصين أضواء الدنيا، وقد سرقت فعلاً، بل أخذتها جهراً وعنوة وبجدارة. فقد عرف العالم أن الصين لم تعد وراء الطين، يخفيها السور العظيم في بيوت طينية واطئة يسكنها أقزام صفر يُستخدمون في شوارع نيويورك وباريس ولندن عمال نظافة وفي قصورها خدماً للمنازل. المظاهر المدنية البراقة الفارهة لم تعد تؤثر في الصين التي غفلت عنها الدنيا أو هي التي غافلتها عن قصد، فكانت تخفي للعالم خلف السور من اللجين والعقيان والجواهر والعقبان، ما كشفته على استادها الوطني عش الطائر بإنفاقات تفوق ميزانيات الأقاليم والقارات: نحو 28 مليار يورو فقط على تحديث بنيتها التحتية للمرافق الرياضية، وفي مقدمتها تحفتها: عش الطائر بهندسة رائعة قل نظيرها، و37 ملعباً آخر لمنافسات ال ،28 وضعتها الصين كلها تحت تصرف شعارها في الأولمبياد: دنيا واحدة وحلم واحد – One World One Dream. بخروجنا معاً من الصين ومن شهر (أغسطس)، ودخولنا شهر رمضان، نكون قد استبدلنا برياضات البدن رياضات الروح، لكن شبح (أغسطس) لن يختفي: كيف استطاعت الصين المحكوم عليها أمريكياً في أغسطس 2008 بالإعدام الرياضي على أنها بلد الهزيمة المصحوبة بالتلوث وارتفاع درجة الحرارة وانتهاك حقوق الإنسان، أن تحقق مرة واحدة وفي غضون 17 يوماً من أغسطس نفسه، ذلك الفوز الكاسح على الغطرسة الأمريكية المهيمنة 16 سنة على العرش الأولمبي منذ دورة برشلونة 1992؟
يبدو أن الصين بطنينها ورنينها أرادت معاقبة أمريكا، لكن على الطريقة اليابانية فاختارت شهر (أغسطس) محكمة عدل للتنفيذ. اليابان لم تنس (أغسطس1945)، وما فعلته الطائرة الأمريكية إينولا غاي بهيروشيما أول ضحية قنبلة نووية في التاريخ، عندما قام الطيار الأمريكي الكولونيل بول تيبيتس في يوم 6 أغسطس منه بإسقاط قنبلة يورانيوم تزن أكثر من 5.4 (قنبلة A) فدمرت 90% من مباني ومنشآت المدينة، قتلاها 80،000 شخص، والجرحى 90،000 والملايين مشردون، مقلصة سكان المدينة المنكوبة إلى أقل من 350،000 نسمة، ثم عادت الطائرة في يوم 9 أغسطس منه، وفي الساعة الثامنة وخمس عشرة دقيقة بإلقاء القنبلة الثانية، وبعد دقيقة من إلقائها كانت ضحايا القنبلتين من 10 كيلو طن في هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين زهاء 140،000 من أرواح البشر، 99% منهم مدنيون.
اليوم الغطرسة الأمريكية في مواجهة القتل الرحيم من آسيا، إذ واجهتها الصين على المسرح العالمي عبر أولمبياد ،2008 كما واجهتها اليابان عام 1964 بعد هزيمتها البشعة، وواجهتها أيضاً كوريا الجنوبية عام 1988. الحياة بفشلها ونجاحها خطط، فكما الخطة في الصيام روحية، كذلك هي في الرياضة تكتيكية، وفي السياسة استراتيجية، وفي الحروب تدميرية، فلا أصدقاء ولا أعداء دائمون في السياسة والرياضة، كما حال الأمس واليوم بين باراك أوباما وبيل كلنتون وهيلاري. فالصين لن تصبح عدواً دائماً لأمريكا ولا حليفتها الدائمة، لكنها أرادت أن تهزم أمريكا من دون إطلاق رصاصة متبنية سياسة لا تدمّر كي لا تتدمّر، فاختارت باب الرياضة للقضاء على كينغ كونغ، كما اختارت طوكيو قبلها باب الاقتصاد. فبالأمس رأينا الين الياباني في صعود مقابل هبوط الدولار، ورأينا اليوم العرق الصيني المتخلف في نظر أمريكا يكشف عن عضلات سيقانه ببهرجة عش الطائر ليدفع أمريكا خلف الطابور.
الصين نجحت في تنظيم إحدى أنجح الألعاب الأولمبية إن لم يكن أنجحها على الإطلاق، وتربعت على عرش الأولمبياد بعد أن أنفقت 44 مليار دولار. قمة لا تقارن بما سبق لأمريكا إلى اليوم، ولن تقاس بما تتهيأ له بريطانيا العظمى من الغد، وقد بدأ العد التنازلي لأولمبياد لندن ،2012 رغم الغرور البريطاني المستعرض على لسان نجم كرة القدم الإنجليزي الأبيض ديفيد بيكهام وهو يستلم الكرة: (إننا متأكدون أننا نقدم ألعاباً أفضل منكم أيها الصينيون!). آخ منكم يا الإنجليز. الأمريكيون والبريطانيون عندهم عقدة من كل ما هو غير أمريكي وإنجليزي، لكنه يبدو ليس ببعيد ذلك اليوم الجديد الذي يستبدل فيه الأصفر الآسيوي لون قميصه من (الغباء بالتمويه) إلى (الدهاء) الحقيقي لينذر العالم بمن على الجانب الآخر من الوادي من الأخطبوط الأبيض هو (الغبي).
ورغم أن العالم صعق بما تفاجأ به اليوم من المنظومة الصينية، لكنها لم تكن مفاجأة على المنظومة الإسلامية التي أوصاها رسولها الأمّي المبين قبل 1400 سنة، ومن عمق تلك البادية الصحراوية التي لم تكن وصلتها عجّة الصين وعجينها، ولا صورها وخرائطها ولا حتى اسمها، ورغم ذلك أمرنا منقذ البشرية رسول الإسلام: ب(طلب العلم ولو في الصين). حقا إنها معجزة سبقت إشاراتها كل الحضارات، ليؤكدها المناخ والطبيعة بعد قرون وأجيال أنه الحق، نعم إنه الحق، والحق يقال.
وهنا لا بد أن نتساءل جدلاً: ماذا يشكل المسلمون والصينيون معاً، وكلاهما ملياران؟ فالصينيون بما يفوق المليار احتفلوا بأولمبياد بكين معاً، كما هم يعملون وينتجون معاً، وها نحن المسلمون بما يزيد على المليار المتوزعين على أكثر من 22،7% من مساحات الكون، استقبلنا معاً رمضاننا المبارك، ونلتزم بمواقيت الإمساك والإفطار بين الشروق والغروب معاً. والصين أكبر دولة في العالم بعدد السكان، كما كانت قرطبة يوماً أكبر مدينة في العالم من ناحية عدد السكان، وتملك الصين 6.9 مليون متر مربع من الكرة الأرضية، بينما تبلغ فقط مساحة الوطن العربي 2.14 مليون متر مربع، فالعرب والصين يسيطران معاً على 1/6 من إجمالي مساحات اليابسة في العالم، يعني أن العرب والصين يشكلان معاً أكثر من ربع سكان العالم، وهذا ما يقلق واشنطن من أن يقوم المسلمون والعرب يوماً باستبدال شعارهم (نحن وأمريكا) إلى شعار (نحن والصين).
الصين تقترب منا إن طلبنا ذلك. النفط العربي سلعة لها مكانتها الاستراتيجية الارتباطية بتنمية الصين، وها هي الصين في أولمبياد بكين قد أنفقت نحو 7.4 مليون دولار لتوفير الوجبات الإسلامية المخصصة للعرب والمسلمين في المتروات والمطارات، واختارت الحكومة الصينية 12 مسجداً من أصل 70 في العاصمة خلال الدورة وزودتها بلافتات باللغة العربية، ولم تعرقل بكين المتحجبات والمصلين في الملاعب، كما لم نسمع في الصين عن أية إهانة كاريكاتيرية لشخصية الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، كما لم نسمع يوماً على امتداد البر الكبير عن عرقلة لطفلة متحجبة في الصفوف الدراسية، أو عن شاب يطرد من قاعات المجتمع المدني والأكاديمي الصيني لمجرد أنه ملتح.
وشهر الصوم لا يفسر بشهر النوم. دعنا نصحح مفهوم رمضان كريم، إنه كريم بمعنى كلمة العطاء والإنتاج. إنه ليس للغفلة والكسل والاسترخاء كما يبدو للبعض، إنه شهر بدر وبدريين بمنجزاتهم وهم صائمون. دعنا نختار الصوم على أنه الطريقة المثلى لكسب الميداليات الذهبية، ونجعل من رمضان كريم بوابة لأولمبياد قديم تدرب صالاته النفوس على الرياضات الروحية التي نتخرج منها بميداليات نقاء الروح وصفاء النفس، علّه يقتل الحقد ويدفن الضغينة بين العرب والمسلمين، ويقلل بينهم العداء وسفك الدماء، قالها الرسول صلى الله عليه وسلم: صوموا تصحوا. وقالها المسيح عليه السلام: عندما تصومون لا تكونوا عابسي الوجوه، فالصوم يجب أن يجعلنا منتجين مسالمين، فهل آن لنا أن نتخذ من الصوم شهراً مباركاً يدعو إلى الهدنة من إراقة المزيد من الدماء العربية العربية، والعربية الإسلامية، والإسلامية الإسلامية؟ رمضان كريم هل نتخذه هدنة لإراقة الدماء إن لم نستطع إيقافها؟
كل رمضان ينتهي بعيده، ولكل عيد أفراحه، فهل لنا أن نجلب في العيد مجموعة من الأطفال المنبوذين المشردين من اليتامى مع أمهاتهم الأرامل إلى منتجعاتنا يجتمع فيها أبناء الفقراء بالأغنياء، وندخل الفرح والسرور إلى قلب الطفل المنبوذ، ونؤهله لأولمبياد جديد قد يجلب منها للعرب والمسلمين ذهبيات بعدد بلدانها؟ هناك أطفال منبوذون في مقديشو وكابول وغزة والضفة، كذلك في كوسوفو والبوسنة والهرسك وكشمير وفي دول أخرى آسيوية إفريقية إسلامية عربية عريقة. إنهم ليسوا لقطاء، وإنما الدنيا جعلت منهم لقطاء، فلا أب يربيهم ولا أم تحتضنهم ولا أشقاء يسندونهم ولا أصدقاء يحتمون إليهم.
هذا يذكرنا بآخر ما قاله وزير الرياضة الصيني ليو بنغ في أولمبياد بكين إن ظهور جيل جديد من الرياضيين واختراقهم رياضات جديدة كانا السبب في تربع الصين على عرش الميداليات، وقال أيضاً إن ما حققناه في الأولمبياد دافع قوي جداً للمستقبل، مشيراً إلى أن القادم الجديد هو (الجندي المجهول) من أبناء بلد المليار قد يحمل مفاجآت أخرى. وأضاف هؤلاء الوافدون أصبحوا القوة الأساس في نجاح الرياضة الصينية. فيا ترى هل لدينا من فئة هؤلاء؟ نعم لدينا إن بحثنا عنهم. إنه الطابور الخامس المعدوم في الوطن الكبير. إنهم الأطفال المستخدمون في الملاهي والمقاهي والمخابز، وتتم المتاجرة اللا إخلاقية بهم على الأرصفة دون حقوقهم المشروعة في التربية والتعليم.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش)، وهو الصائم دون الصيام عن البخل والغطرسة والغرور ونكران الذات، فلتكن فطرة هذا العيد من الدول الغنية، هي تربية المنبوذين من أطفال الدول الفقيرة، لتكتشف مهاراتهم. فإنه من المعروف أن المنبوذ إذا منح الفرص ينجز المعجزات ليثبت ذاته، فلو وضعنا أمامه أكواماً من المناهج لانكبّ عليها حتى يتخرج منها من دون دلعيات، وإن تخرّج وانخرط في سوق العمل لقدّس العمل، ولطالب بالمزيد من العمل دون المزيد من الأجور، وبذلك قد نزيح عن الشارع الخليجي تلك الاستعراضات المتواصلة من إضراب العمّال الأجانب الذين غزوها على رائحة النفط، وهجروها قبل نضوب الآبار.
وكما قال وزير الرياضة الصيني لأشباله: لقد أظهرتم قوة الرياضة التي توحد الشعوب، وإن الصين أرادت أن تذهل العالم فأذهلته. كذلك دعنا نقول للأطفال المنبوذين في الدول الفقيرة من العالمين الإسلامي والعربي والموالين للإسلام والعروبة: أنتم الأبطال وأنتم الأشبال، وأنتم نجوم غد، وبكم نحلم بغدٍ ستجلبون لنا فيه 66 ميدالية ذهبية بمعدل ميدالية واحدة على الأقل عن كل دولة إسلامية.
صدقوني، سنحصل بذلك على ذلك الجندي المجهول من هذا الطابور المنسي للذكور والإناث، فيبرز من الرجال عباقرة ومبدعون نائمون، ومن النساء أمهات صالحات، فالفقيرة هي تلك الصبورة التي تصمد أمام الأحداث ولا تنهار أمام الكوارث، وتشارك ابن الحلال في لقمة خبز في قصره، كما تشاركه في كوخه، وترضى بالقليل، وتتحمل التضحيات لتسعد زوجاً يعود إليها بقطعة رغيف تشاركه حياته، لا تقف له بقائمة الكماليات والرفاهيات من آخر موديل للفلل والسيارات، ولا تريد أن تسكن الأبراج الراقية، قدر ما تريد أن تسكن روح الزوج الصالح الذي يغنيها عن الجوع والعطش مقابل أن يسكن هو روحها بالصدق والإخلاص مدى الحياة.