بقلم – مروة الحمامصي
تاجر المخدرات هو ذلك الشخص ذو الوجه الذي يشي بالاجرام ويتحدث بطريقة سوقية ويحمل السلاح , والكبير فيهم عادة مايكون بالغ الثراء قاسي القلب ويدعى المعلم يأمر بقتل هذا وتعذيب ذاك , وإذا ذكرنا تجار المخدرات من الأجانب – أغلبهم من أمريكا اللاتينية – كانوا كأباطرة لهم مناطق نفوذ خاصة يبالغون في لبس الذهب ومحاطون بالبذخ والنساء والحرس والتابعين , يقدمون الرشوة للمسئولين ويقضون على الشرفاء منهم أما المدمن فهو ذلك الطالب فاقد القدوة أو الشخص المحاط بأصدقاء السوء والذي يقدم كل مايملكه لشراء المخدرات ثم يتعرض لأقسى أنواع الاذلال والمهانة بعد أن يدمر جثمانيا ونفسيا , تلك هي الصورة النمطية التي رسخت في أذهاننا من الأعمال الدرامية والسينمائية عن تاجر المخدرات والمدمن , ولكن في فترة من الماضي كان تاجر المخدرات شخصا ذي منصب حساس ومرموق , درس في أكبر المعاهد العلمية وله كلمة مسموعة على دول بأكملها والمدمن هو شعب بمختلف طوائفه .
تلك الجريمة حدثت على أرض الصين وكان ذلك بعد زيادة نفوذ وقوة شركة الهند الشرقية البريطانية و توسع تجارتها مع الصين أن وجدت ميزان المدفوعات في غير صالحها فهي تستورد الشاي والخزف والحرير وتصدر للصين العقاقير الطبية وبعض المأكولات , فكانت تدفع أكثر ما تأخذ . فقررت أن تصدر السلعة التي إن عرفها المستهلك طلب منها أضعافا , و كان ذلك الأفيون , فقامت بزاعة الأفيون في البنغال – بنجلاديش الآن – ودخل كسلعة مهربة , فاقبل عليه شعب الصين , وبعد أن كان التبادل بالسلع الصينية الغالية زيد عليه الفضة . أما الحكومة الصينية فأصدرت عدة قرارات لم تنفذ , وكان ذلك بداية من عام 1729 م , ثم تجدد الحظر على تلك التجارة مابين عامي ( 1789- 1809 ) م , حيث كان تجار المخدرات لهم من النفوذ والقوة ما جعلهم يقدمون لرجال الحكومة الصينية الرشوة ليتستروا عليهم .
وقد دخلت الحكومة البريطانية ذلك الصراع القائم لتفوز به , إذ أصدر البرلمان البريطاني عام 1833 م قرار بعدم تجديد عقد امتياز شركة الهند الشرقية ووقف نشاطها مع الصين , وأن الحكومة البريطانية هم من سيقوم بذلك , وارسلت اللورد نابييرممثلا لها , والذي استبد بالقرارات , فرفض التواصل مع هيئة كو هونج ” رابطة التجار الصينيين ” وأراد الاتصال مباشرة مع نائب الامبراطور . فرفضت الحكومة الصينية التعامل معه , في حين ارسل نابيير لبريطانيا يحرضها على محاربة الصين وبيع الافيون عنوة . فحرمت الصين على مواطنيها العمل في الوكالة البريطانية التجارية , و كذلك منعتهم من بيع المواد الغذائية للبريطانيين و ايضا أمرت التجار الأجانب بعدم التعامل مع البريطانيين , فاضطر نابيير لترك كانتون إلى مكاو حيث توفي هناك .
وضربت الصين بيد من حديد على تجارة الافيون حيث أمر “لين تسي هو” المسئول الحكومي القوي , التجار الأجانب بتسليم الأفيون , والتعهد بعدم الاشتراك في تلك التجارة وإلا كان الاعدام هو المصير المحتوم , فلم يذعنوا لذلك واشتبك معهم , وسلب منهم حوالي عشرين ألف صندوق , وتم اعدام تلك البضاعة المشبوهة في حفل كبير في 3 يونيه 1839م وكان ذلك نتيجة حتمية لما وجده الامبراطور الصيني داو جوانج من اهمال في رسائل للملكة فيكتوريا يناشدها بمنع تجارة الأفيون ثم مطالبة الشركات الأجنبية بأن تتخلى عن مخازن الأفيون التي لديها مقابل الشاي ولكن كل هذا لم يوقف تلك التجارة . وقد لجأ التجار الانجليز المقيمين بمدينة كانتون للحكومة البريطانية المتمثلة في الكابتن إليوت والذي أمر تجار بريطانيا بمغادرة كانتون لهونج كونج وأعلنت بريطانيا بعدها الحرب علي الصين بحجة سوء معاملة رعاياها و عدم تطبيقها لحرية التجارة , فكانت هونج كونج قاعدة لبريطانيا لضرب المدن الساحلية واشتركت معها الولايات المتحدة حيث كانت تشترك في تجارة الأفيون وكانت تريد أن تفتح لبضائعها سوقا في الصين بدون قيود , فكانت حرباً غير متكافئة من حيث التسليح الغربي الحديث والتسليح الصيني الأقل تقدما منه ,وبذلك احتلت بريطانيا كانتون وشنغهاي و أموي و ننج بو , فاضطرت الصين لعقد معاهدة ” نانكينج ” عام 1842 م , وانتهت حرب عرفت في التاريخ بحرب الأفيون الأولى وفيها تنازلت الصين لبريطانيا عن جزيرة هونج كونج لتكون مركزاً آمناً للتجار البريطانيين , وكذلك فتحت موانئ ” كانتون” و ” أموس ” و” فوتشو” و” ننج بو ” للتجارة الاجنبية بعد أن كان التجار الأجانب لا يسمح لهم سوى بدخول ميناء جوانزو فقط , كما قيضت قيمة الضرائب التي تفرضها الصين على البضائع المستوردة بألاتزيد على 5% , مماجعل البضائع الاجنبية تغزو الصين مقابل البضائع الوطنية . ووفرت بريطانيا الحماية لرعاياها وجعلتهم لا يمثلون إلا أمام المحاكم البريطانية على أرض الصين و أعطت بريطانيا الحرية لتجارها في التعامل مع تجار الصين دون التواصل مع هيئة ” كو هونج ” , والأدهى أن بريطانيا فرضت غرامة قدرها 21 مليون دولار على الصين لدفع نفقات الحرب و كذلك غرامة عن الأفيون المحروق , وكان من ضمن بنود المعاهدة أنه إذا منح امبراطور الصين في المستقبل ولأي سبب امتيازات لرعايا أي دولة أجنبية أخرى فإن رعايا بريطانيا سوف ينعمون بمثل تلك المزايا .
وفي هذا بداية لفتح الباب أمام الدول الأوروبية الأخرى في المطالبة بمزايا أسوة بمافعلته بريطانيا فهي لن تظل في صفوف المتفرجين للأبد فلكل دولة مصالح تريد أن توسعها , فبدأت المنافسة وأرسلت الولايات المتحدة مبعوثها “كاليب كشنج” للمطالبة بحقوق في التجارة مع الصين والتي نجحت بالفعل في عقد معاهدة مماثلة لنانكينج وهي معاهدة “وانهيا” عام 1844م , وذلك تحت التهديد باستخدام القوة , وتكرر ذلك في نفس العام مع فرنسا بمعاهدة “وامبو” وزيد على حقوق التجارة حرية التبشير الكاثوليكي , ثم تلاهم في المطالبة بحقوق غير مستحقة بلجيكا والسويد والدانمارك . و بذلك بدأت اوروبا تضع قدمها شيئا فشيئا على رقبة الامبراطورية التي اهتزت دعائمها وشهد أهل الصين على ضعف حكومتهم . مماترتب عليه مواجهات مسلحة بين القوى الشعبية وحكومة الصين المستبدة أو ماسمي بثورة “تاي بنج” , ووقفت الدول الأجنبية موقف الحياد منها في بادئ الأمر إلا أنها دخلت بحسم تلك الأوضاع المتصاعدة فمن ناحية لم تكون الامبرطورية الصينية قادرة على مواجهة تلك الثورة بمفردها , ومن ناحية أخرى رأت الدول الأجنبية أن القوة الشعبية تريد إلغاء امتيازات الأجانب في الصين وتحرم تجارة الأفيون تحريماً تاماً , فبدأت بالمناوشة الأولى عندما قدمت مطالب جديدة للحكومة الصينية , وهي موقنة بعجز الصين على التنفيذ فتظهربذلك قوتها أمام الامبراطورية الضعيفة , فطلبت كل من : بريطانيا , فرنسا , الولايات المتحدة الأمريكية عام 1854م بعدة مطالب , وهي : تعديل اتفاقيات حرب الأفيون الأولى , ضرورة اقامة ممثلي الدول الاجنبية في بكين –التي كانت محرمة على الأجانب – لسهولة الاتصال المباشربينهم و بين الامبراطور الصيني واستقبالهم بالاستقبال الذي يليق بهم وإلغاء القيود المفروضة عليهم , وايضا فتح أسواق الصين للتجارة الأجنبية على اختلاف بضائعها وبالتالي مشروعية تجارة الأفيون , ومقابل ذلك تتعهد تلك الدول بمساعدة امبراطور الصين في إخماد ثورة ” تاي بنج ” .
فباتت الحكومة الصينية بين شقي الرحى فاختارت أن تميل كفة الدول الاجنبية و أن تماطلها وتعطي لها أقل التنازلات فهي على الأقل وعدت بمساعدتها , وإن كان ذلك مقابل إضعاف هيبتها , ففطنت الدول الأجنبية لمماطلة حكومة الصين , لكنها مالبثت أن انشغلت عنها بحرب القرم فيما بين عامي 1854 م – 1856 م . ثم بدأت بريطانيا بإشعال الفتيل , عندما طالبت الصين بالاعتذار عما اعتبرته اهانة وذلك عام 1856م , حينما فتشت السلطات الصينية سفينة “لوركا أرو ” التي ترفع العلم البريطاني بدعوة أنها تأوى بعض القراصنة من بحر الصين . ولم تتلق الرد من الحكومة الصينية , فأسرعت القوات البحرية البريطانية بأخذ الموافقة من لندن بالرد العسكري , فقامت يوم 25 ديسمير1857م بقصف مدينة ” كانتون ” والاستيلاء عليها , وتلك كانت بداية لحرب سجلت في التاريخ باسم “حرب الأفيون الثانية ” ,ثم جاءت الفرصة فرنسا للاشتراك فيها سنة 1857 م عندما قتل المبشر الفرنسي الكاثوليكي شابدلين على أرض الصين , كما كانت بريطانيا تحتاج لمساعدتها حيث سحبت جزء كبير من قواتها لقمع التمرد الذي قام في الهند , فاتحدت قواتها مع بريطانيا وزحفا إلى ” تيان – تسين ” وهدفهما بكين , فتأكدت الصين أن المماطلة و المناورة في تأجيل طلبات الدول الأوروربية , أمر له عواقب وخيمة فرضخت ووقعت على معاهدة ” تيان تسين ” عام 1858 م , وتحدد فيها : جعل تجارة الأفيون تجارة مشروعة , فتح موانئ جديدة أمام التجارة الأجنبية , قبول حكومة الصين باستقبال ممثلين الدول الأجنبية في العاصمة بكين , توفير الضمانات لسلامة التجار والمبشرين الأجانب في الصين , حرية البعثات التبشيرية في نشر معتقداتها في الصين , حرية الأجانب في السفر و التجارة والتنقل في أنحاء الصين , ووضع غرامات كبيرة على الصين , توحيد التعريفة الجمركية للتجار الأجانب داخل الصين على ألا تزيد عن 2.5 % , وحق استخدلم العمال الصينيين في العمل خارج البلاد لصالح الدول الأجنبية في مناجم الملايو و غرب الولايات المتحدة لمد خطوط السكك الحديدية . ومرة أخرى ماطلت الصين في تنفيذ المعاهدة فتجددت المعارك بين الطرفين , واحتلت بريطانيا وفرنسا “تيان – تسين ” ثم اتجهوا لبكين ودمروا قصر الامبراطور , والذي فر وترك أخاه ليواجه المعتدين .
فاضطر” كوانج ” أخو الامبراطور من عقد سلسلة اتفاقيات مع القوات الغربية عرفت باتفاقيات بكين , وقد فرضت شروطا في صالح القوات الغربية , ومن أهمها : أن يضمن السفراء الأجانب حق الإقامة في بكين , ضم مدينة “كولون” للقاعدة البريطانية في هونج كونج , ضم ميناء” تيان – تسين ” إلى الموانيء المفتوحة التي شملتها للمعاهدات السابقة , التأكيد على شرعية العمالة الصينية في الخارج ” الكولي ” , اعادة كافة ممتلكات الكاثوليك التي كان تم مصادرتها عام 1824 م . وكان ذلك بداية علاقة تعاون بين الحكومة الصينية و بين القوى الغربية ضد العدو المشترك ألا وهو القوى الشعبية متمثلة في ثورة ” تاي – بنج ” . فكانت قوات الامبراطور الصيني مدعومة بضباط فرنسيين وبريطانيين , وايضا أحدث الأسلحة التي لم تستخدم من قبل مثل بندقية أنفيلد , و تم استخدام الزوارق البخارية المسلحة – التي لم تعرفها المقاومة الشعبية فهزمت المقاومة ودخلت القوى الغربية العاصمة ” نانكينج ” . وكانت القوى البريطانية يشارك فيها قادة في غاية الشراسة مؤمنين إيمان تام بعظمة الامبراطورية البريطانية عما سواها , ومنهم القائد جوردون الذي شارك في احراق القصر الامبراطوري والذي سينتقل بعد ذلك للسودان لقمع الثورة هناك ثم سيقتل . وبذلك تكالب الغرب على الصين , فاحتلت بريطانيا الأقاليم الجنوبية الغربية لبورما بعد أن تنازلت الصين عنها , كذلك أخذت منها نيبال .
و احتلت فرنسا فيتنام المجاورة للحدود الجنوبية الشرقية للصين عام 1858 م . فكانت قاعدة عسكرية ضد الصين ونتيجة لذلك وقعت فرنسا معاهدة عام 1885م أجبرت فيها الصين على فتح أبوابها الجنوبية الغربية لصالحها , ثم حصلت على خليج كوانجشو في الجنوب عام 1898م ليكون قاعدة بحرية بعقد استئجار لمدة 99 عاما , و كذلك حصلت على امتيازات في التعدين وإنشاء السكك الحديدية في إقليمي ” كوانجسي ” و” يونان” , واجبار الصين على تعيين مستشاريين فرنسيين لإدارة البريد . وكان ذلك فرصة لروسيا فاستولت على المناطق الحدودية مع الصين , بل وارسلت قواتها لشمال اقليم ” سينكيانج ” لتوقف توسع بريطانيا في جنوب الصين , و أجبرت الصين على تأجير قاعدة ” بورت آرثر ” وميناء ” وارين ” لمدة 25 عاما . فاحتدم الصراع الروسي البريطاني على أرض الصين , فاحتلت بريطانيا ميناء ” واي هاي واي ” وأصرت على عدم الانسحاب منه حتى تنسحب روسيا من ” بورت آرثر ” , ودخلت اليابان في تقطيع الغنيمة الصينية , فدخلت حرباً مع الصين هزمتها فيها , ثم عقدت معها معاهدة “شيمونوسكي ” تنازلت فيها الصين لليابان عن ” تايوان ” , وجزر ” بسكادور ” , وشبه جزيرة ” لياو تونج ” , وفتحت الموانئ الصينية لليابان , و تحكمت في كوريا بعد أن كان هذا لصالح الصين , ولم تقف ألمانيا تشاهد ذلك دون حراك , فانتهزت مقتل اثنين من المبشرين الألمان في “شانتونج ” عام 1897 م , فتم الضغط والتهديد على الصين , و تمكنت من عقد اتفاقية في 6 مارس 1898م , أخذت بها امتيازات في التعدين و السكك الحديدية في إقليم ” شانتونج ” واستأجرت الأراضي المحيطة لخليج ” كياو تشاو ” كقاعدة بحرية , أما الولايات المتحدة فأرادت غنيمتها هي الأخرى من الصين ،فهي بالرغم من أنها وقعت معاهدة بالحياد أثناء الحرب ألا أن السفينة ” يو إس إس سان جاسينتو “اشتركت قي قصف حصون تاكو في عام 1859م . ثم أخذت ما أرادته من الصين بتطبيق سياسة ” الباب المفتوح ” عام 1899م , وتتلخص في اعتراف كل دولة أجنبية بمناطق نفوذ الدول الأخرى في الصين , و أن تفتح كل دولة مناطق نفوذها أمام التجارة الحرة للدول الأخرى , وبذلك تتمكن من الوصول لأماكن النفوذ الأخرى دون التصادم مع تلك القوى , ولم تتفق معها في البداية إلا بريطانيا التي وافقت تلك السياسة ميولها , ثم مالبثت أن اتفقت الدول الست على التعاون فيمابينهم ووضع الصين موضع الفريسة التي لا تقدر على المقاومة , فنتج عن ذلك افلاس خزانة الصين واقتراضها من كل تلك الدول بضمانات مثل : تحصيل الضرائب و ضريبة الملح و النقل الداخلي , وفرض الضرائب على الشعب الذي قاوم بكل قوته وزادت ثورته على المستعمر وعلى الحكومة التي كانت حكومة ضعيفة منذ البداية لم تستطع أن تحمي شعبها وأرضها من بلاء الأفيون , فتسلل للجسد والعقل الصيني ينخر قوته ويسلمه فريسة سهلة لمستغليه .