بقلم – مروة الحمامصى
في يوم الثامن والعشرين من أغسطس عام 1227م , مات جنكيز خان في “هاسيا –هسي” بالصين وكانت وصيته أن يدفن في مسقط رأسه بمنغوليا وتحديداً فى العاصمة “قراقورم ” , وكان موكبه الجنائزي يمر بطريق طويل كان مصير كل من قد شاهده القتل سواء كان بشراً أو طائراً أو حيواناً , حتى لايتسرب خبر وفاة القائد الأعظم فتحدث اضطرابات في الامبراطورية المترامية الأطراف , وقد يرى الكثير في ذلك دموية لامبرر لها , ولكن حياة ذلك الشخص كانت دموية أكثر فقد تسبب في قتل مالايقل عن سبعة وثلاثين مليون شخص واستمر في سفك الدماء نسله من بعده لا لشئ سوى استعمار مدن وقتل كل ساكنيها بلارحمة وبدون أسباب . وعند وصول جثمانه كان زعماء المغول قد اجتمعوا لتشييعه ثم دفن في غابة قد أوصي بان يدفن فيها تحت شجرة , وعهد لإحدى العشائر بحراسة القبر وحرق البخور دون توقف حتى تكاثفت وتشابكت أشجار الغابة المحيطة بالقبر فيختفي أثره . وقد اختلف المؤرخون في أسباب مقتله وكان كل فريق يفسره بطريقة تتناسب ومايريد . فذكر المؤرخون الصينيون بأنه قتل من جرح قاتل أصابته بأسنانها “كوربيلديشين خاتون ” أرملة حاكم التانجوت عندما هم جنكيزخان بمداعبتها في حريمه : ثم ألقت بنفسها في النهر الأصفر , ويشكك في تلك الرواية فربما يكون ذلك لتلطيخ سيرة جنكيز خان بأن نهايته كانت على يد امرأة , أما يوحنا الكاربيني فذكر أنه عند زيارته لقراقورم علم أن الوفاة كانت نتيجة الاصابة بسهم ,
وقد ذكر هذا ايضا الرحالة ماركوبولو . وإذا كانت تلك الوفاة محاطة بالأساطير والدماء , كانت ايضا الحياة , ولم تختلف عنهما البداية , فقد اختلف المؤرخون في تاريخ ولادته فمنهم من ذكر عام 1155م والبعض رجح عام 1167م , في إقليم”دولون بولداق ” بمنغوليا بالقرب من الضفة اليمنى لنهر “أونون” , واسمه تيموجين بن يسوكاي بن برتان بن بهادر رئيس وخان قبيلة “قيات” المغولية , لم يحضر أبوه ولادته فكان يحارب التتار وقتل زعيمهم “تيموجين ” , وأمه هي “يولون ” اختطفها أبوه يوم زفافها من شخص آخر من قبائل الماركيت , و قد عاد أبوه للديار ليجد وليده قابضاً على قطعة من الدم بيده , ففسروا ذلك بأنه سيكون ملكاً عظيماً , لذلك سوف يسفك الكثير من الدماء وقد ربط يسوكاي ذلك بانتصاره على زعيم التتار فأطلق على ابنه “تيموجين” تخليداً لذكرى انتصاره . ونشأ “تيموجين ” أو جنكيز خان فيمابعد كأي طفل مغولي يتغذى بعد فطامه على ألبان الخيل والماشية , ويتدرب منذ الثالثة على استخدام القوس والنشاب في صيد غذائهم من الفئران والأرانب وركوب الخراف مقلدين الكبار عندما يركبون الخيل , وعندما كبر كان يتأثر بقصص العشيرة عن الحرب والسلب , وكان يرعى الماشية وتميز بكونه ذكياً فارع الطول قوي البنية بارعاً في الرماية والمصارعة . عندما بلغ الثالثة عشر من عمره خرج مع والده في رحلة لأخواله , التقيا خلالها بزعيم قبيلة القنقرات المغولية والذي اعجب بتيموجين وعقد خطبته على ابنته “بورته” وكانت وقتها لم تبلغ العاشرة , وفي طريق رحلة يسوكاي بهادر دعاه بعض بدو التتار-أصحاب الثأر القديم – لتناول العشاء فدسوا له السم , وظل يسوكاي محتملا الآلام لثلاثة أيام حتى وصل لقومه , وحكى لهم غدر التتار, وعلم ابنه بذلك فأسرع لوالده لكن وجدهقد مات, وبما أنه الابن الأكبر فكانت عليه مسؤولية الأسرة , و القبيلة و الحلف المغولي الذي ترأسه يسوكاي , ولصغر سنه تولت أمه تلك المهام .
ولكن يسوكاي الزعيم القوي قد مات , فتحلل زعماء المغول من تبعيتهم لزعيم قبيلة “قيات” وزعيم المغول الصغير , بل إن قبيلة قيات نفسها تمردت على زعامة طفل صغير أو حتى أرملة تخطط لابنها الزعامة , فاختار بعضهم زعيماً آخر واختار البعض زعامة كبير تايجيوت التتري , وتخلى عن أسرة تيموجين الجميع , فتنقلت الأم “يولان” بأفراد الأسرة من مكان لآخر هرباً من ثأر التتار الذي لم يهدأ , وكانت تتولى اطعام الأسرة بجمع النباتات و الثمار البرية , وتربيةابناء يسوكاي ولم تفرق بين أولادها “تيموجين , جوجي قسار , قاجيون , تموأتجكن ” و” بلوتي نويان ” من زوجة ثانية , و “بكتار” من زوجة ثالثة , وجعلت مهمة الأبناء في صيد الحيوانات البرية الصغيرة , وأسماك نهر أونون . وتحت تلك الظروف القاسية من طعام شحيح , كانت أكبر فرحة عند صيد ثعلب أو فأر , يلزمها تدبير الفخاخ و الخطط , في أجواء مناخية قاسية قد تصل درجة الحرارة فيها إلى ستين تحت الصفر ,وأحلام السيادة بعد أن كان يسوكاي قاب قوسين من تولية خاقانية المغول , وثأر قديم من قاتليه , وقوة جسمانية هائلة متعطشة للتعبير عن نفسها تشكلت شخصية تيموجين . وقد تشاجر تيموجين مع شقيقه “جوجي كسار ” لأخ لهم غير شقيق وقتلوه حيث اتهموه بسرقة عصفور وسمكة , فتصدت الأم لبداية الفرقة بين أفراد الأسرة ونبهتهم بأن العدو هو قتلة أبوهم ” التايجيوت ” , وصدقت الأم فلم يترك “التايجيوت ” ابناء” يسوكاي ” وطاردوهم , فنقلوا اقامتهم إلى جبل “كنتاي “المقدس للاحتماء به . ومع الوقت والجهد أصبح للأسرة تسعة خيول استولى لصوص من التايجيوت على ثمانية منها , فطاردهم “تيموجين ” لأربعة أيام اشده في رحلته صبي قابله يدعى “بورتشو” وهو من دله اللصوص , ورافقه في رحلته , حتى استعاد خيوله ونجح في الفرار من مطاردة “التايجيوت” , ورجع “بورتشو” لوالده الذي اكرم ابن الزعيم “يسوكاي ” , ثم يعود “تيموجين ” لأسرته , وكلما مر الوقت زادت قوة العلاقة بين “تيموجين ” و”بورتشو ” والعديد من المغول حوله , وبدأت تتضح قوة شخصيته وملامح الزعامة تظهر عليه , وكانت صلته تقوى بالقبائل المغولية لرجاحة عقله وحسمه للأمور فيما بينهم بالعدل , فأعلنت بعض القبائل تبعيتها , ودخل حرب مع المنشقين من ابناء قبيلته “قيات” وانتصر عليهم , حتى أصبح زعيماً رسمياً للقيات , وتزوج من “بورته ” ابنة زعيم “القنقرات ” التي أتمت الثالثة عشر من عمرها , ولم يطلب والدها مهراً سوى فراء حيوان السمور . وقد رأى “تيموجين ” في منامه أنه يمسك سيفاً بكل يد من يداه , وقد امتدت يداه لتلامس إحداهما المشرق والأخرى المغرب , فقص على أمه ما رآه فبشرته أنه سيستولى على الدنيا بشرقها وغربها .
وبعد ان اصبح “تيموجين ” زعيم القيات وتحالف مع أصهاره “القنقرات ” وخضعت له العديد من القبائل , أصبح سيداً على شرق منغوليا , وأراد “تيموجين ” احياء حلم “يسوكاي ” فتحالف مع “طغرل ” زعيم قبيلة “كرايت” على نهر تولا , وقد كان والده قد شرب معه من قبل نخب الصداقة الأبدية , ثم تحالف مع قبيلة “جاجيرات “حلفاً حدث بعده فرقة , انتهت بانتصار “تيموجين ” حيث استخدم سلاح الدعاية مبشراً المغول بكل النبؤات وقراءة الطالع التي أكدت من قبل سيادته , فانضوى المغول تحت لوائه وهو الزعيم الآت حتماً , وقد اجتمع أربع أمراء يمثلون أعرق العائلات الملكية نسباً على اختيار “تيموجين ” خاناً للمغول , وأدوا له القسم على مناصرته وبذل الروح فداءا له , وأطلق عليه لقب “جنكيزخان ” والتي اختلف المؤرخون في معناه فبعضهم فسرها بالقوي , والبعض بابن السماء , وآخرون بالمحارب الكامل . وهنا لنا وقفة حيث أن أولئك الأمراء منهم من أحق بالزعامة وهم أصحاب الدماء الملكية , ولكن الأوضاع المتردية والفرقة بين المغول التي حاول “تيموجين ” من قبل أن يقضي عليها , ونار الثأر من التتار والتي تملأ صدر “تيموجين ” جعلته خير من يتولى زمام الأمور , فأقام عدة اصلاحات في دولته الجديدة , فأصبح مواطنوا القبائل معروفون باسم “أولوس” , أما أصحاب القرب أو “أروج” من أفراد أسرته وأقاربه وعشيرته وكل المقربين منه وقد أعطى لهم المناصب العسكرية والمدنية . ومن هؤلاء اختار المهرة منهم في الرماية والقتال كحرس شخصي , والباقي المهام الخاصة بنقل الأوامر الملكية وتجهيز العربات وتوفير الطعام والشراب , والاشراف على الخدم , والمحافظة على النظام عند انعقاد “مجلس قوريلتاي ” أو مجلس أعيان القبائل المغولية , وكان رئيس كل هؤلاء صديقه المقرب “بورتشو ” . وقد حان الوقت للأخذ بالثأر من التتار , فاتجه بجيش مغولي مكون ثلاثة عشر ألف جندي لمحاربة “التايجيوت ” صاحبة الثلاثين ألف جندي , و انتصر “جنكيز خان ” عليهم , وألقى أسراهم في أحواض مليئة بالمياه المغلية , فكان كل ذلك رسالة واضحة لمن يقف في وجهه , وكانت تلك البداية لأحداث دموية لن تنساها البشرية اكتسح خطرها آلاف الأميال , كالأوبئة التي لافكاك منها .